‫الرئيسية‬ مقالات أسى ما اعتيادي ضياء الدين بلال
مقالات - مايو 15, 2025

أسى ما اعتيادي ضياء الدين بلال

أسى ما اعتيادي  ضياء الدين بلال

في الطريق إلى مطار الخرطوم، متوجهين إلى أديس أبابا صباح ذلك الخميس، كان لا بد لي من التأكد من صحة الخبر.

 

رسالة من هاتف المرحوم سعد الدين إبراهيم وصلت إلى هاتف الصديق الطاهر التوم، تحمل نبأ وفاة الكاتب الكبير.

أخبرني الطاهر بالخبر المُفجع، وقبل أن نصل معًا إلى المطار، قلت له: لا بد من التثبّت، ففي عالم الواتساب ورواج الشائعات، لم نعد نثق في أخبار الموت.

 

اتصلت برقم سعد الدين، والساعة تقترب من السادسة، موعد إقلاع الطائرة، ودقات قلبي تتسارع. كنت أدعو الله سرًّا أن يردّ عليَّ الرجل صاحب الصوت الوديع الهامس:

سلامات يا ديدي.

هكذا كان يناديني دائمًا، مُلاطفًا في كل لقاء أو مكالمة هاتفية.

 

لكن جاءني صوت ابنه محمد باكيًا، ليؤكد صحة ما تمنيت أن يكون مجرد شائعة.

رحل الأستاذ سعد الدين إبراهيم، بكل ما فيه من روعة في الكتابة الصحفية، ونظم الشعر، وبهاء الأنس اللطيف.

 

في بدايتنا الصحفية، ونحن نحبو في بلاط صاحبة الجلالة، كنت أتابع بشغف كتابات الراحل في الصحف، وفي مجلة الملتقى، حيث كان يحرّر زاوية بعنوان (مونولوج صحفي)، وهو نمط لم يكن شائعًا في الصحافة السودانية حينها، يعنى بتناول الظواهر الاجتماعية، ويطرق القضايا الحسّاسة بجرأة وحسّ إنساني رفيع.

 

في ذلك الزمن غير البعيد، كنت أتابع من غرفة الأولاد الطرفية في منزل الأسرة بحي المزاد بالمناقل، سلسلةً درامية تبثّها الإذاعة السودانية بعنوان (حكاية من حلتنا)، وهي من أروع ما قُدّم في إذاعة أم درمان طوال الثمانينيات وحتى منتصف التسعينيات.

حكايات من صميم الواقع السوداني، تمسّ قضايا المجتمع بلمسة إبداعية رشيقة، وتنفذ إلى مناطق المسكوت عنه.

 

لم يجذبني عمل درامي إذاعي كما فعلت تلك السلسلة، وكنت أبلغ ذروة التوتر كلما انقطع الإرسال أثناء الحلقة.

 

في ذلك الزمان، كنت من المعجبين بثلاثي الإبداع في الصحف والمجلات: عبد المنعم قطبي، وعبد اللطيف البوني، وسعد الدين إبراهيم.

ثلاثتهم أسهموا في اكتشاف كثير من المواهب الإعلامية، وكان يجمع بينهم شبهٌ في الشكل والمضمون وروح المرح واللطف.

 

كان الأستاذ سعد الدين مبدعًا صميمًا، متعدد المواهب، يجمع بين البساطة والعمق، والسهولة والامتناع.

 

لا تُوصف سعادتي، في مستهل التسعينيات، حين صادفته إلى جواري في حافلة متجهة من المحطة الوسطى بحري إلى ميدان أبو جنزير.

كنت أتمنى لو يبطئ الزمن وصول الحافلة إلى محطتها الأخيرة، وبدأت أتحدث بإيقاع سريع، أقفز من موضوع لآخر، والكاتب الكبير ينصت لي بصبر وتواضع جميلين.

 

وحين ولجتُ عالم الصحافة، وتدرّجت فيه، توطدت علاقتي بالأستاذ سعد الدين، فصرنا نقضي ساعات طوالًا في حوارات ماتعة لا حدود لها ولا سقوف، في الشعر، والصحافة، والدراما، وسير المبدعين.

 

فوجئت بثراء الرجل من القصص والحكايات والمعلومات. وكنت، في كل مرة، أطلب منه أن يقرأ لي بصوته الهامس:

 

العزيزة الما بتسأل عن ظروفنا

الوحيدة الطال عشان جيتك وقوفنا

العزيزة الما بتسأل عن ظروفنا

الوحيدة الما بتحاول يوم تشوفنا

المواعيد لسه حزنانة بتنادي

والأماسي بتبكي في أسى ما اعتيادي

ما كنتي بهجتا براوئع قوس قزح

 

تلك القصيدة التي سماها صديقي الحبيب أبو حباب محمد عبد القادر “النشيد الوطني للعشّاق”، وكنت أُلحّ عليه أن يحدثني عن تلك المحبوبة التي أهدت الحمام برتقالة:

 

عن حبيبتي أنا حأحكي ليكم

ضل ضفايرا ملتقانا

شدّوا أوتار الضلوع

أنا بحكي ليكم عن حنانا

مرّة غنّت عن هوانا

فرّحت كل الحزانى

 

قبل سنوات، بدأت تقديم البرامج الحوارية على قناة الشروق من خلال برنامج (فوق العادة)، ووجدت دعمًا كبيرًا من سعد الدين، الذي كان يحتفي بي في عموده المقروء، ويحتفظ بملاحظاته النقدية ليُسديها لي عبر الهاتف والرسائل، ويقترح لي ضيوفًا للبرنامج.

 

قبل أسبوعين من وفاته، التقيت به في مناسبة زواج الأخ الحبيب طارق شريف.

ذهبت إليه مهرولًا بفرح طفولي، ووجدت نفسي أقبّل رأسه، على غير عادتي، كأصدق تعبير عن حبي وإعجابي به، كمبدع استثنائي، وإنسان شفيف.

 

لك الرحمة والمغفرة، أستاذي الجليل سعد الدين إبراهيم.

وأسأل الله أن تكون خاتمتك خيرًا، ونهايتك نعيمًا، وقبرك روضةً من رياض الجنة.

 

::: إعادة نشر في ذكرى رحيله

‫شاهد أيضًا‬

أصل_القضية ما بين المخاض المتعسر والاحتضان التطفلي: كامل إدريس واللحظة السودانية الحرجة محمد أحمد أبوبكر باحث بمركز الخبراء العرب

“في الأوطان الموجوعة، لا يُطلب التجميل، بل التشخيص الدقيق. ولا تُقاس الحلول بحجم الض…