‫الرئيسية‬ مقالات وجه الحقيقة إبراهيم شقلاوي سلام السودان وتوازنات الغرف المعتمة
مقالات - ‫‫‫‏‫8 ساعات مضت‬

وجه الحقيقة إبراهيم شقلاوي سلام السودان وتوازنات الغرف المعتمة

وجه الحقيقة إبراهيم شقلاوي  سلام السودان وتوازنات الغرف المعتمة

في عالم السياسة لا تُدار المعارك في العلن فقط، بل يُطبخ كثير منها خلف الأبواب المغلقة، وتُحسم في الغرف المعتمة بتوازنات دقيقة وتسويات متغيرة. والسودان اليوم يُجسّد هذا الواقع المركّب بأوضح صوره. فمنذ اندلاع حرب 15 أبريل 2023، نتيجة لانقلاب مليشيا الدعم السريع على المسار الانتقالي، والساحة السودانية تمور بتفاعلات إقليمية ودولية تختلط فيها الحسابات العسكرية بالأجندات السياسية والاقتصادية، في ظل انسدادٍ في الأفق أوشك أن يبلغ مرحلة التكلّس.

تصريحات وزير الخارجية الأمريكي الجديد ماركو روبيو، التي نقلتها وكالات أنباء، باعتبار السودان أولوية دبلوماسية للمرحلة المقبلة، تعكس إدراكًا أمريكيًا متأخرًا لخطورة النزاع السوداني على الأمن الإقليمي. لكن اللافت في التصريحات تعيين مسعد بولس – صاحب الخلفية الاقتصادية والمعرفة العميقة بالأوساط الإفريقية – مسؤولًا عن ملف السودان، في دلالة على توجه أمريكي يتجاوز مجرد وقف إطلاق النار إلى مقاربة متعددة الأبعاد تشمل إعادة الإعمار والهيكلة الاقتصادية، وربما الاستثمار في ترتيبات ما بعد الحرب.

هذا التحرك الأمريكي، المتزامن مع نجاح وساطتها في ملف رواندا والكونغو الديمقراطية، يشير إلى رغبة واشنطن في استعادة دورها كفاعل مؤثر في النزاعات الإفريقية، خاصةً بعد تراجع أدوار بعض الأطراف الإقليمية، كمصر الحائرة بين الضغوط الإماراتية وحرصها على وحدة السودان، وإثيوبيا الساعية لحشد دعم لمواقفها في مفاوضات سد النهضة ومنظمة حوض النيل، إلى جانب تراجع فعالية الاتحاد الإفريقي والإيقاد.

أما الحضور القطري إلى جانب واشنطن في ملفي رواندا والكونغو، وسبقه في ملف سلام دارفور، فقد عزّز الثقة الإقليمية في قدرته على توفير مظلة تفاوضية مقبولة. السودانيون لا ينسون الوساطة القطرية التي أرست سوابق تفاوضية مهمة يمكن البناء عليها. لذا فإن إعادة تفعيل الدور القطري ضمن مقاربة أمريكية أوسع قد يفتح نافذة لسلام أكثر شمولًا في السودان.

في الداخل، تعكس المشاورات المستمرة حول تشكيل ما يُعرف بـ”حكومة الأمل” برئاسة الدكتور كامل إدريس عمق الانقسامات داخل معسكر السلطة، وسط تنافس واضح بين الجيش والحركات المسلحة الطامعة في السلطة. الجيش يشدد على ضرورة تعيين كفاءات مستقلة، بينما تسعى تلك الحركات – التي كانت في السابق رمزًا للمقاومة – إلى تعزيز نفوذها، خاصة بعد وقوفها إلى جانب الجيش خلال الحرب.

لكن هذه الحركات تواجه تحديًا جوهريًا يتمثل في الشرعية المجتمعية، إذ بات المزاج العام ينظر إلى بعضها بوصفه جزءً من الأزمة لا الحل، نتيجة لغياب الرؤية السياسية وغياب الوجوه الجديدة القادرة على إقناع الشارع بقدرتها على قيادة الدولة في هذه المرحلة الانتقالية الحرجة.

اللافت في المشهد السوداني أن التيار الإسلامي، رغم استعادته بعضًا من نفوذه السياسي والاجتماعي بانحيازه إلى الجيش ومشاركته الفاعلة في تنسيق ودعم ما يُعرف بـ”المقاومة الشعبية” – التي ساهمت بوضوح في تغيير معادلات الحرب لصالح القوات المسلحة – إلا أنه بدأ سياسيًا خارج حسابات تشكيل الحكومة المقبلة.

فالحركة الإسلامية السودانية، التي شكّلت لعقود أحد أركان الحكم، اختارت في هذه المرحلة التموضع في موقع “الداعم من الخلف”، مكتفيةً ببيان مقتضب أصدره أمينها العام علي كرتي، يبارك تعيين الدكتور كامل إدريس رئيسًا للوزراء، دون أن تطرح مطالب أو شروطًا سياسية. وقد فُسّر هذا الموقف بأنه نوع من البراغماتية الحذرة، وربما وفاء لتصريحات سابقة ربطت فيها مشاركتها بتفويض شعبي.

هذا الغياب يضع التيار الإسلامي أمام تحدٍ كبير: كيف يحافظ على زخمه الشعبي دون أن يتحول إلى قوة مُعطِّلة؟ وكيف يعيد تعريف دوره في مرحلة ما بعد الحرب، في ظل التوازنات الدولية الجديدة؟

وفي هذا السياق، أعاد تسريب اسم السفير نور الدين ساتي كمرشح محتمل لوزارة الخارجية فتح جدلٍ جديد، يعكس التوتر القائم بين الرؤية المدنية ومراكز النفوذ التقليدية. وعلى الرغم من نفي مجلس الوزراء رسميًا، فإن المؤشرات تُرجّح أن ساتي لا يزال مطروحًا، نظرًا لخلفيته الدبلوماسية وصلاته بما يُعرف بـ”صفقات الغرف المعتمة”. إلا أن ترشيحه أثار جدلًا حادًا بين من يراه دبلوماسيًا كفؤًا، ومن يعتبره شخصية متقلبة خدمت أنظمة سياسية متباينة. ليعود السؤال الجوهري إلى الواجهة: هل المعيار هو الكفاءة أم الولاء السياسي؟

إن عودة طرح حكومة كفاءات بقيادة كامل إدريس تعكس رغبة داخلية وخارجية في تجاوز تجربة المحاصصة الحزبية، لكنها تثير في الوقت نفسه جدلًا حول كيفية تحقيق التوازن بين الاستقلالية والكفاءة، في ظل ضغوط الحركات المسلحة للحفاظ على مكاسب اتفاق جوبا، ومطالب قوى أخرى بإعادة النظر فيه، بعد تغير موازين القوى وظهور مطالب جديدة بتمثيل أطراف من الوسط والشمال والشرق.

وفي خضم كل ذلك، يبقى احتمال عقد صفقات تُفضي إلى تعيين شخصيات مثيرة للجدل واردًا، ما قد يعيد إنتاج التوترات من جديد.

وبحسب ما نراه من وجه الحقيقة، فإن السودان اليوم يقف عند مفترق طرق. فالوساطة الأمريكية-القطرية المحتملة تمثل فرصة لتسوية مرضية، لكنها لن تُكتب لها النجاح ما لم تسبقها ترتيبات داخلية شفافة وواقعية، تقوم على اعتماد معايير موضوعية لاختيار القيادات، بعيدًا عن الحسابات الأيديولوجية والمصالح الضيقة، مع إرساء مسار جاد للعدالة الانتقالية يضمن الإنصاف، ويعزز الثقة، ويستعيد حقوق المواطنين.

فالحرب لا تُحسم بالبيانات، بل بالتوازنات والصفقات، وإن لم تُدار بوعي سياسي ومسؤولية وطنية، فإنها ستفتح الباب لمزيد من التدخلات الخارجية والانقسامات الداخلية التي تهدد بقاء الدولة.

دمتم بخير وعافية.
الإثنين 30 مايو 2025م
Shglawi55@gmail.com

‫شاهد أيضًا‬

البرهان يدعو إلي اصلاح النظام المالي العالمي بما يحقق العدالة والتوازن 

قال السيد رئيس مجلس السيادة الانتقالي الفريق أول الركن عبدالفتاح البرهان إن أزمة السودان ب…