سلسلة (مولد النور). 4/2 (وفاة أمه آمنة بنت وهب، وهو ابن ست سنوات صلى الله عليه وسلم). عادل عسوم

كنت ارغب في جعل الجزء الثاني من مقالي هذا عن (حادثة شق صدره الشريف)، اذ في ذلك التزام بالتسلسل التأريخي لحياة الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم، لكنني -ولسبق الإعلان في ختام المقال الأول- ثم للأثر الذي تتركه وفاة الأمهات، ارتأيت الحديث عن وفاة أمه، وسيكون الجزء الثالث بحول الله عن حادثة شق صدره الشريف، وللعلم فقد حرصت على الأعتماد على (الأرجح) من الأقوال خلال سردي لأحداث سيرة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، وجعلت (السياق الحواري) بين الأم وابنها في هذا الجزء من مقالي مؤسس على قراءات لي متواصلة منذ يفعي لسيرة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، ثم استصحاب ل(رؤيا منامية) عرضت لي في العام الأول من قدومي إلى مكة المكرمة مقبولا للدراسة في جامعة أم القرى، وقد كانت حقا-سني عمر لي- بمثابة الربيع من الزمان.
اوصلني البص من جدة إلى المسجد الحرام فدخلته معتمرا بعد أن تركت حقيبة ملابسي في أماكن حفظ الحقائب خارج الحرم، ولجت وبيدي حذائي وفي قلبي تحتشد مشاعر شاب لتوه دلف إلى العشرين من عمره، واغرورقت عيناي عندما (هبطت) اقدامي إلى الصّحن السابح في لُجَّةِ الأنوار، تتوسطه الكعبة المشرفة شامخة ترنو إلى السماء، سواد كسوتها الحريرية ينعكس على رخام الحرم صحنا وحوائط ومآذن، وكلما اقتربت من منطلق طوافي مقابل الحجر الأسود يزداد تكاثف الأنوار، فكأني بنور من الله يتغشى الكعبة، بدت لي ككوكب دُرّى يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ، يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ، وما فتئت الأنوار تتداخل وتصطرخ أمام ناظري إلى أن تغشت الدُنا الخيوط البيض الأولى من الفجر، وكنت حينها فرغت من عمرتي وتهيأت لأداء صلاة الفجر، وما إن أشرقت الشمس ذهبت إلى حيث يربض سكن جامعة أم القرى في منطقة الحوض/العزيزية، وكان سنيها داخل المنطقة الحرام قبل ان يتم نقل الجامعة إلى خارجه بعد تخرجي فيها، وفي مساء يوم وصولي حرصتُ على الذهاب إلى جبل أبي قبيس لحاجة في نفسي قضيتها مستصحبا الآية الكريمة التي خاطب فيها الحق سبحانه وتعالى نبيه إبراهيم عليه السلام:
{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} الحج 27
منذ أن وقعت عيناي على هذه الآية الكريمة ظل يتردد في دواخلي سؤالٌ:
كيف للناس أن يصلهم أذان نبي الله إبراهيم بالحج يومها؟!
ذكر المفسرون بأنه عندما أمر الله إبراهيم عليه السلام بأن يؤذن في الناس بالحج سأل وقال:
– يا رب، كيف أُبَلِّغَ الناس وصوتي لا ينفذهم؟
فقال الله جل في علاه؛ نادِ وعلينا البلاغ!
فقام على مقامه، وقيل على الحجر، وقيل على الصفا، وقيل على جبل أبي قبيس (وهو الأرجح)، وصاح:
(يا أيها الناس إن ربكم قد اتخذ بيتا فحجوه).
يقال بأن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسمع من في الأرحام والأصلاب، وأجابه كل شيء سمعه، من حجر ومدر وشجر، ومن كتب الله له أنه يحج إلى يوم القيامة (لبيك اللهم لبيك).
قال ابن كثير رحمه الله بعد أن ذكر هذا الكلام؛ هذا مضمون ما ورد عن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وغير واحد من السلف، والله أعلم.
أوردها ابن جرير وابن أبي حاتم مطولة.
لم النت وقوقل قد اتيح للناس بعد.
وقفت على جبل أبي قبيس، وكأن الزمان عاد إلى يوم وقف إبراهيم عليه السلام يؤذن في الناس، وإذا بي يتغشاني النعاس أَمَنَةً، ويتنزل عَلَيَّ من السماء ماء فيطهرني ويذهب عني رجز الشيطان، وربط الله على قلبي وثبت أقدامي، فأسندت ظهري إلى صخرة لاتقي رذاذ المطر وقد شرع في الهطول، وانبرى لي السؤال:
كيف وصل صوت نبي الله إبراهيم إلى الناس حينها وعلى مر السنوات والقرون، ليأتوا إلى بيت الله من كل فج عميق رجالا وعلى كل ضامر؟!
قلت لنفسي طالما كان الصوت مادة – والمادة كما هو معلوم لا تفنى إلاّ إذا شاء الله -، فإن الصوت/المادة يظل بعد خروجه من حنجرة صاحبه سابحا في الهواء من حولنا، وهذا يعني أن الفضاء مليء بالأصوات منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها، تنتظر من يستطيع التقاطها وإعادتها إلى صورتها الأولى؛ وإن كان بعد وفاة صاحب الصوت بمئات الآلاف من السنوات، وعلمت من بعد بأن ذلك كان أحد الطموحات العلمية التي سُعِيَ إلى تحقيقها من خلال مشروع إسمه “حرب النجوم” تبناه الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان.
فسألت نفسي:
أليس من الممكن للبشرية أن تستطيع اكتشاف طريقة للدمج بين فيزياء الصوت وكيمياء وبايولوجيا الخلية البشرية لإيصال التردد الصوتي من خلال ال DAN و RNA وبقية مكونات خلايانا؟!
ما أن وصلت مكان سكناي في جامعة أم القرى سألت عن مكان البيت الذي ولد فيه الحبيب محمد صلوات الله وسلامه عليه وآله، وسألت أيضا عن (كل) الأماكن التي تشرفت بحراكه صلى الله عليه وسلم في مكة، مثل مكان دار الأرقم بن الأرقم، ثم مسجد الجن، وكذلك مكان الحائط الذي استند عليه الحبيب فدعى الله بعيد عودته من رحلة الطائف الحزينة، وكذلك غار حراء، وسواه من البقاع التي حفلت وتشرفت وازدانت بنوره صلى الله عليه وآله وسلم.
علمت بأن مكان ولادته صلى الله عليه وآله وسلم يقع شرق مبنى المسجد الحرام على شارع الغزة، وقد اقيم مكانه مبنى المكتبة العامة الحالية، فذهبت إلى المكان راجلا بعد أدائي لصلاة الجمعة في المسجد الحرام، ووجدت باب المكتبة مغلقا، وظللت ادور حولها وبرد شتاء مكة يفعل بي الأفاعيل، ثم عدت إلى المدخل وجلست على جانب منه داخل انحناءة في الحائط لايصلها تيار الهواء، وإذا بي أخلد إلى نومة لم افق منها إلا بقرع صوت اذان العصر، وعندما نهضت تذكرت تفاصيل رؤيا منامية بدت لي كفلق الصباح!، رأيت الحبيب صلى الله عليه وسلم وهو ابن ست سنوات، ورأيت أمه آمنة، ووقرت في اذني وذاكرتي كلمات الحوار الذي دار بين الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم وأمه آمنة، ولم تزل سيماء نبينا في ذاكرتي وهو طفل عليه مايشبه (العراقي) القطني الذي اعتدنا لبسه في السودان، وشعره يغطي جبهته العريضة، وعينيه مغرورقتان بالدموع، وبجانبه أمه آمنة وعليها مايشبه العباءة، لكنها بلون ابيض وفيها مايشبه النقوش بلون أزرق غامق.
تفيد أرجح الأقوال بأن عمر نبينا صلى الله عليه وآله وسلم كان ست سنوات عندما توفيت أمه آمنة، وابن الست سنوات كما يقول علماء التربية يكون مدركا لكل ماحوله، اذ فيه تظهر بدايات تعلم التفكير المنطقى الأوسع، ويتضح فيه تطور النمو العقلى، وفيه يسعى الطفل إلى سبر غور من هم حوله، ويسعى إلى تكوين الأصدقاء، ويكون تلمسه لمشاعر الأبوين والاخوال والاعمام انضج، وتتسم هذه المرحلة بالخيال المتسع.
أرسلت آمنة إلى حليمة السعدية تطلب منها الاتيان بمحمد لكونها تزمع الذهاب به إلى اخوتها في يثرب، فوجد ذلك قبولا من الحبيب، فجاء في معية حليمة مشتاقا إلى أمه التي ولدته، أتى وقد كبر واستوعب يتمه لفقده أبيه وهو في بطنها، أتى مشتاقا إلى عوالم الحياة داخل مكة لعلها تعوضه بعضا من قساوة حياة البادية التي أمضى فيها سنيّه الست، فكان حاله حال القادم من الريف إلى المدينة، فكأني أرى أمه آمنة تضمه إلى صدرها بمحبة وشوق، ونظرت في عينيه الملأى حزنا وقالت:
بأبي أنت وأمي يافلذة كبدي يامحمد، ما كان لي أن أفارقك وقد رحل عنا أباك عبدالله من قبل أن تكتحل عيناك بنور الدنيا،
قالت ذلك ودست أنفها في شعره تستروح أنسام زوجها الراحل، زوجها الذي لم تعش معه سوى أيام عشر كما تفيد أرجح الأقوال، لكنها كانت تكفي لأن يملأ حبه قلبها بحيث لا يدع مكانا لحب رجل آخر، فلم تتزوج آمنة من بعد عبدالله!.
وهاجت أشجان آمنة ومحمد بين ذراعيها، هاجت أشجانها ووجه أبيه يحوّم حولهما في فضاء المكان الذي كنت فيه، وكنت احرص على الذهاب إلى تلك المكتبة على الرغم من اعتياد جل زملائي من الطلبة السودانيين -ان لم يكن كلهم- إلى مكتبة ابن باز المجاورة للحرم، فقد كنت آنس حقا عندما أكون في ذاك الموضع، حيث يتملكني احساس بأنني استوعب بل احفظ كل مافي المراجع التي اتخيرها من تلك المكتبة، ولم يداخلني الشك البتة بأن بركة المكان وأنواره قد حلت في الأرجاء وإلى أن يرث الله الأرض وما عليها…
وكأني بخيال آمنة بنت وهب يسافر إلى البعيد، يومها كانت فتاة يتمناها كل شاب من مكة زوجا، وعبد الله كان أوسمهم وأجلّهم حسبا وأكثرهم فراسة، كيف لا وهو الذي افتداه اباه عبدالمطلب من الذبح بحُمُر النعم عندما اشارت إليه الأقداح ليكون الذبيح، وكم فرحت آمنة عندما جاءها أباها (وهب) يزف إليها طلب يدها من عبد المطلب لتكون زوجا لابنه عبدالله، وسعادة آمنة كانت عشم ومنى العديد من فتيات مكة بأن يتقدم عبد الله إلى واحدة منهن، وفي مقدمة أولئك شقيقة ورقة بن نوفل التي خطبته لنفسها يوما فتأبّى عليها عبد الله، وعندما مازحها صباح اليوم الذي تزوج فيه من آمنة قائلا: ألم تكوني يابنت نوفل تودّين الزواج مني؟
قالت: “فارقك النور الذي كان معك بالأمس، فليس لي بك اليوم حاجة”.
لقد رأت من قبل في اهابه نورا، لكن النور اختفى بعد أن تزوج من آمنة!
والقصة وردت في كل كتب السيرة ودلائل النبوة، وان كان البعض يضعفها.
لعمري انه النور الذي تخلل جسدها طوال فترة حملها لابنها محمد، وهاهي ترى ذات النور وتتلمسه بيديها وتتحسسه بكل حواسها في جسده الشريف، إنه طفل تفوق وسامته وسامة أبيه، لقد ورث عنه ذات العينين الواسعتين، وان أشرب بياضهما بشيء من حمرة، وورث ذات شعر أبيه الذي يضرب على منكبيه، وورث ذات الوجه المستدير الأبيض المشرب بحمرة.
أجهشت آمنة بكاء وتساقطت دموعها على وجه الحبيب وجعلت تلوم نفسها وتقول:
ما كان لي أن أدعك تعيش قساوة حياة البادية ياحبيبي يامحمد،
لقد كان عليّ أن أبقيك معي ولا أركن إلى تقاليد قريش كي أعوضك بحناني عن حنان ابيك الذي لم تره، فنظر إليها بعينين محبتين وهو بين ذراعيها وقال بلغته الفصيحة التي تعلمها في ديار بني سعد:
لا عليك يا أماه،
انه قدر الله، وقدره كله خير، البادية وهبتني الكثير الذي يزين رجولتي عندما أشبُّ، وهاهم الناس كما ترينهم لا يصدقون كوني ابن ست واني لكذلك،
وها أنا اقارع من لهم فوت علي عمرا وعلما فافوقهم لغة ومنطقا وحجة، وها أنا بحمد الله صحيح معافى لا تعضلني سقام مكة كسواي ممّن نشأ فيها.
فضمته أكثر إلى صدرها وجعلت تمطر وجهه الشريف بقبلاتها، ويا للاحساس الجميل حينما يتلمس الوالدان نجابةَ ولد لهما، وقد صدق الشاعر حين قال:
نعم الاله على العبادة كثيرة وأجلهن نجابة الأبناء.
نظرت آمنة لابنها وقالت:
يامحمد ياصغيري، اني عليك راضية فارض عني، فما كان من محمد الاّ أن وضع يديه الصغيرين على خدّي أمه وقبلها على جبينها وأومأ برأسه، ثم وضع رأسه في حضن أمه وناما.
ويالجمال الدنيا في أحضان الوالدة، أحس الحبيب بدفئ أنفاس أمه بين بصيلات شعر رأسه، وكانت يداها تتشبثان به في حنان وكأنها تود استعاضة كل سني البعاد، فمال برأسه قليلا إلى الخلف ليتمكن من رؤية وجهها الجميل، فما كان منها الاّ أن ازدادت به تشبثا وهي نائمة، ولعلها كانت تحس بقرب دنو أجلها ياأحباب…
وشقشقت عصفورة مؤذنة بطلوع الفجر، فانتفض الصبي محمد وانسل برفق من تحت الغطاء،
فهو لم يعتد نوما من بعد طلوع الفجر في بادية بني سعد.
وجلس محمد يسترجع رؤية رآها خلال نومه، ونظر الى وجه أمه من بعيد وهي نائمة فتحدرت من عينيه الدموع، فالرؤيا التي رآها تفيد بأن أمه في طريقها إلى مبارحة الدنيا خلال ايام، فخرج إلى ساحة الدار وجلس يبكي ماشاء له الله من بكاء، انه اليتيم الذي لم ير اباه، وعندما قدّر له أن يعود إلى أمه هاهي تزمع الرحيل الى حيث رحل والده…
فداك ابي وأمي ونفسي يارسول الله، ها أنت تقاسي كل ذلك ولم يتجاوز عمرك من السنين ستّا!
مسح محمد دموعه بكم قميصه وغسل وجهه ثم انتحى جانبا قصيا من الدار وجلس يناجي ربه:
رباه، يا قيوم السموات والأرض،
يامن خلقتني من العدم، ثم نفخت فيّ من روحك العليّة،
وكلأتني بعينك التي لاتنام في بادية بني سعد، أدعوك باسمائك الحسنى وصفاتك العُلى أن تلطف بأمي يالطيف.
وتصحو أمه آمنة فيسمع صوتها وهي تناديه:
– يامحمد، يامحمد. أين أنت يافلذة كبدي.
– أنا هنا ياأماه.
فتأتيه وقد أحست وهي الأم بما يكتنفه من حزن.
– قل لي يابني ماذا يحزنك فانني لا أحتمل أن اراك حزينا، فينظر في وجهها وأوشك أن يحكي لها عن الرؤيا التي رآها، لكنه آثر السكوت وهو يعلم أن الأولى بالرؤيا ان كانت حزينة أن لايخبر بها أحدا، فقال لأمه:
– لا عليك ياأماه، مابي الاّ الشوق اليك، فضمته إليها وهي تقول:
– وكيف لأم مثلي ليس لها في الدنيا سواك يابني؟.
وآمنة كانت قد عقدت العزم بأن تذهب بابنها لزيارة قبر أبيه، ثم ليقضيا زمانا عند أخواله المقيمين في يثرب، فأخبرته بذلك قائلة بأن أخواله في شوق شديد لرؤياه، فيهز الحبيب رأسه بحزن وينطلق إلى حيث الراحلة، انطلق وهو موقن بأنها الصحبة الأولى والأخيرة مع أمه.
ويصل الحبيب وأمه إلى حيث قبر والده عبدالله، فتجثو آمنة على ركبتيها لتبلل حافة القبر بدموعها وتخاطب صاحب القبر قائلة:
يا ابامحمد، ها هو أبننا قد شبّ واضحى قرة عين ياعبدالله، ليتك كنت بيننا لتملأ عينيك من جمال اهابه وحسن سمته ونبل طبعه، انه يحمل عنك الكثير ياعبد الله، ثم إنه أوتي جوامع الكلم.
ثم جففت أدمعها وقالت:
كم اشتاقك يا ابامحمد، لقد عاهدت نفسي بأن لا أتبعّل لرجل من بعدك إلى أن التقيك هناك في السماء ياعبدالله.
فدمعت عينا الحبيب وهو يستمع إلى بوح أمه ومناجاتها لأبيه، فاقترب منها وقال:
– لا تقسي على نفسك ياأماه، ثم أناخا بعيرهما وانطلقا صوب يثرب، وبقي محمدٌ يرمق أمه من طرف خفي ويحدّث نفسه قائلا:
كم أنت عظيمة ياأماه، ما أنقى وأنبل الحب الذي خامر فؤادك تجاه أبي ياأيتها الطاهرة، لان كانت الأيام التي عاشها معك أبي معدودة لم تزد عن العشر تذكي مثل هذا الحب الكبير؛ كيف ان كان عاش معك السنوات الطوال؟!
ورفع وجهه الى السماء يناجي ربه:
ربّاه لك الحمد والشكر بأن جعلتني أبنا لهذه الأم النبيلة.
وتبقى أنظار محمد معلقة بأمه يحصي كل حراكها وسكناتها اذ يعلم يقينا قرب أفول نجمها عن حياته، ويصل الركب إلى يثرب، وكانت المرة الأولى التي يرى فيها أخواله، والأخوال دوما أرق قلبا وأذخر حنانا، لقد تعهدوه وافاضوا عليه من الحب الكثير، فتمنى لو أنه عاش بقية عمره بينهم، لكن شئ ما كان يشده إلى مكة، قلبه يقول له بأن الله يدّخر له شيئا عظيما هناك.
وتبدأ صحة أمه تعتل منذ وصولها إلى يثرب يوما بعد يوم، فلا يملك أخواله الاّ استعجالها للعودة إلى مكة حسبانا منهم بأنها حمى يثرب، وتتحرك القافلة وفيها اثنان من الأخوال وآمنة وبصحبتها الحبيب محمد، ويقول أحد أخويها:
لعلك ياآمنة تتعافين عندما نبارح يثرب وتتنسمين هواء مكة الجاف، فقد اصابتك حمى يثرب،
لكن تسوء حال آمنة كلما تقدمت القافلة، وعند وصولهم إلى بقعة بين يثرب ومكة تسمى الأبواء، تطلب منهم آمنة أن ينيخو ناقتها لترتاح قليلا، وهنا أيقن محمد بأنها ساعة الفراق.
أنزلها أخواها وهادوها بينهم إلى ظل شجرة لترتاح قليلا، فاسندت ظهرها إلى جذع الشجرة ونادت فلذة كبدها محمد فجاءها الحبيب، وإذا بدموعها تبلل جبينه ووجنتيه، وأحس بجسدها يصطلي بحرارة الحمى،
ثم بدأت تبرد رويدا رويدا، وبقيت تقبل وجه ابنها وكتفه ويديه وهو يقبلها،
ثم رفعت رأسها إلى أخويها وقالت:
أوصلوا محمدا إلى جده عبدالمطلب، فهو ارأف الناس به،
ودمعت عينا الحبيب وهو يرى مدى حرصها عليه وهي في ساعة نزعها، وظل خالاه يهدآن من روعها ويقولان:
ستصلين باذن الرب سالمة معافاة إلى مكة ياآمنة، فترد آمنة:
– لا ياأخواي، اني اراني أتخفف من دنياي، ويعلو صدرها ويهبط وهي تغالب أنفاسها، فيسند الحبيب راسها بيديه الصغيرتين عساه يخفف عنها، وتبقى نظراتها الملأى شفقة وحنانا تتخلل وجه محمد إلى أن اسلمت الروح.
أغمض الحبيب عينيها بيديه وقال لأخواله:
– أنها رحلت إلى السماء يا أخوالي،
فيحتضنه أحدهما وهو يقول باكيا:
– بورك فيك ياابن أختي، انك رجل في اهاب طفل ورب الكعبة…
واحتبست الدموع في عيني محمد، إن حزنه عليها كبير،
ولولا أن مهدت الرؤيا المنامية لهذا الموقف الحزين لانكسر قلبه الصغير وهو الطفل الذي لم يتعدى عمره السادسة، فلعمري إن مشهد أحد الأقرياء يفارق الدنيا أمام ناظري طفل في مثل عمره لهو مؤلمة، فكيف ان كان ذاك الحبيب أمّا؟!!!.
وبذلك انتهى هذا الجزء من سلسلة مقالات مولد النور.
وان شاء الله يكون الجزء الثالث بعنوان:
فهم مغاير لحادثة شق صدر نبينا صلى الله عليه وسلم.
adilassoom@gmail.com
بالواضح فتح الرحمن النحاس لن يصلح العطار ماأفسده الدهر.. صائدو التمرد أم صائدة البمبان..؟!! ماعاد بيننا مكان لزمن الموات..!!
عشرات المواقف خلال عدة تظاهرات رأينا فيها من يلتقطون قنابل الدخان (البمبان) ويردونها علي أ…