‫الرئيسية‬ مقالات (حكاوي) من كريمي والبركل عادل عسوم الحكاية العاشرة 21/10
مقالات - نوفمبر 26, 2024

(حكاوي) من كريمي والبركل عادل عسوم الحكاية العاشرة 21/10

عنوان الحكاية:

وهل يسلو الفؤاد الأراك!

معلوم أن “حكاية” تُجمع جمع تكسير على “حَكايا”، وتُجمع جمع مؤنث سالم على “حكايات”، لكنني آثرت تسمية هذه السلسلة ب”حكاوي” ليتاسب الاسم مع اللهجة التي كتبتها بها وهي لهجة أهلي الشايقية.

وهذه الحكايات حقيقية،

 وكلها مشاهد علقت بالذاكرة خلال الطفولة والصبا، وقد عمدت إلى تغيير بعض الأسماء وبعض التفاصيل بما يستلزمه النشر.

مسرح هذه الحكايات كريمة والبركل وماحولهما من القرى على امتداد منحنى النيل، والعنوان مقصود لذاته، لكون مفردة كريمي بإمالتها لها وحيها الذي لاتخطئه الأذهان.

إلى الحكاية: *وهل يسلو الفؤاد الأراك!*

التحية للأراك مكانا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا…

ينطقها أهلها الأحباب ب(اللراك) تيسيرا، وهم المعهود عنهم التيسير والمحنة وحب بعضهم البعض وحب الناس…

وكم صدق الشاعر حين قال:

مغاني الشِّعْبِ طيبا في المغاني

بمنزلة الربيع من الزمان.

وكم للأراك في النفس من محبة وإعزاز…

وان لم أكن من أهلها الخُلّص؛ إلا انني أصبحت أحدهم بسبب عمل الوالد رحمه الله كمساعد طبي في شفخانتها لسنوات ليست بالقليلة قبل عقود، ومافتئت مباني مدرستي مدرسة الأراك المتوسطة ثاوية في خيالي تضوع بعطر المكان والزمان على مرِّ الزمان…

ولأن تساقطت صورٌ لوجوه عديدة فإن وجه أستاذي الفاضل عوض عباس لم يزل في الخاطر كالبدر ينير للصبية منّا الأفهام والدروب…

انه لعمري رجل يصدق فيه قول الشاعر:

الرأي قبل شجاعة الشجعان

هو أولٌ وهي المحلُّ الثاني

فاذا هما اجتمعا لنفس حُرّة

بلغت من العلياء كل مكان.

وفيه يصدق قول الشاعر:

قم للمعلم وفِّه التبجيلا

كاد المعلم أن يكون رسولا.

يلج إلى الفصل فيسأل عن الحصة، ثم يقوم بتدريسها علوما كانت أو لغة عربية أو انجليزية أو رياضيات!

تعلمنا على يديه كيف يكون تمام التوحيد، وكيف يتصالح المرؤ مع نفسه، والرجل على الرغم من كونه معلما للرياضيات فقد علمنا أسس التلاوة وشرح لنا مبادئ التجويد!…

أسأل الله له طول العمر والبركة فيه وتمام الصحة ودوام العافية، ان الله وليُّ ذلك والقادر عليه.

وسواه من أهل الأراك الحبيبة كثر، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا…

فكم من أقمارٍ استعلت فوق سُحُب الأحزان، وإذا بذكراهم سحائب وديما ترفدنا بغيث عميم، يظلون ماثلون في الوجدان ما أشرقت على الدُنا شمس وما تتالت سنواتٌ وعقود،

فيوض أنوارهم تغمرنا كلما استشرفنا صورة لوجه وضئ، ولأن كان القمر الذي نعلم يغيب نهارا، فإنهم مافتئوا مضيئون ماتعاقب ليل أو نهار!،

ولان أضاءت لنا الشمس السوح والدروب؛ فإنهم يضيئون منّا الدواخل والوجدان…

كم من صور لأمثال هذه الجوهٍ من أهل الأراك!

ألا رحم الله صديقي وجاري أحمد محمدالحسن السيد،

لم يزل ماثلا في خاطري، طويلُ العماد، وبعيدُ مهوى قرط المحبة، وكثيف الإعزاز والأنسنة، انبرى لمساعدة والده -في الجزارة-، فكنت اراه- وأنا اللصيق به -يرسل أرباع اللحم الى أسرٍ في أطراف القرية لم تكن تملك له ثمنا!…

ويالحزنه النبيل ودموعه الهطال على أمه التي تاهت وهي في عائدة من أهلها في الزغولة، فإذا به يتوه منه رباط الجأش واضطراب الوجدان، قال لي:

والله ياعادل، الدخلت فيني من يوم موت أمي ما أظنها تاني تمرق!

تغرورق عيناي بالدموع عندما يلوح في خاطري بطوله الفارع وهو يزرع شاطئ النيل بخطواته العجلى بحثا عن جثمان أمه المفقود، وعندما يجد الناس الجثمان يقعى عليه فينظر إليها النظرة الأخيرة، فلم يذرف -بعد ذلك- عليها دمعة واحدة، وهو وان عمَّر من بعدها لسنوات وتزوج وأنجب؛ الاّ إنه ظل يعاني من ألم هصور ينتابه ليتبين له بأنه السرطان ينهشه منذ اليوم الذي ألقى فيه نظرة الوداع على المرحومة…

كنت آخر المهاتفين له وهو يغالب سكرات الموت هناك في قاهرة المعز وبجواره شقيقه الفاضل (السيد)، ورحل أحمد ود السيد واستعلى الى الله،

رحل وترك أرتالاً من الذكريات الحسنة الوضيئة، ثم أصبح قمرا في خاطري…

 وهناك (سمي) له من شباب الكزارير إسمه -كذلك- أحمد حسن أحمد، اختطفته يد المنون -أيضا- باكرا، كان زميل دراسة وصديقا لشقيقي الأكبر حاتم، لم أزل أتذكر بهاء ضحكته إلى يومي هذا، بكاه أهل الكزارير والزغولة وكل مناحي الأراك كما لم يبكوا أحدا من قبله،

اللهم ياحنان يامنان،

يارحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما، يا مالك الملك ورب الاحياء والإماتة؛

أسألك بأسمائك الحسنى كلها وصفاتك العُلى، أن تُشرع للأحمدين وكل أموات أهلنا في الأراك ابواب الجنة يلجون إليها من أيها شاؤا بغير حساب، انك ياربي وليُّ ذلك والقادر عليه.

واعذروني يا أحباب ان ابتدرت لكم حكايتي بالأحزان، والأراك دار حسن لاحزن، وهي لاغرو إحدى حسان شمالنا وإحدى أجمل عرائس منحنى النيل…

خلال آخر زيارة لي للأراك، وقفت على حجر الحمام الذي يفصل بين جزيرتي أم سيوف وبجبوج،

فبدت الجزيرتان كجناحي فراشة أحيانا، وجناح (وزينة) أحايين، جسدها حجر الحمام، وبيوت أهل الأراك كحدوة حصان تفصلها الأمواه عن المكان الذي عليه أقف، فإذا بي أردد بيت شِعر امرأة من غطفان حيث قالت:

إذا حَنّتِ الشقراءُ هاجت إلى الهوى وذكرى أهلُ الأراكِ حنينُها

شكوتُ إليها نأيَ قومي وبُعدَهم وتشكو إليَّ أن أُصيب جنينها.

والأراك المذكور في بيت الشعر وادٍ لشجر الأراك يقع بجوار مكة المكرمة، حرصت على زيارته خلال دراستي في جامعة أم القرى بمكة المكرمة استئناسا بالمكان…

يا أحباب،

كم أطرب عندما يغني المبدع صديق أحمد أغنية (الجزيري بقت مخادة)، انها أغنية تشبه الأراك ولا تكاد تنفك عنه في خيالي، وكم اغرورقت عيناي بالدموع عندما رأيت تسجيلا حديثا للأغنية -أظنه تم تصويره في جزيرة بجبوج- ، والأغنيات دوما ملهمات، وجلنا إن لم يكن كلنا نستصحب من الأغنيات والأشعار ما يهب (الدفو) إلى وحداننا، والراحة لخيالنا إذ عندها تستجم الخواطر والنفوس…

 نستصحب خلال سماعنا لها الكثيف من الصور والمشاهد لأزمنة وأمكنة اقترنت بعهد السماع الأول لتلك الأغنيات، ويكون لها وصل بوجوه لشخوص لهم في النفس الكثير…

كم سعدت عندما زرت أستاذنا صديق أحمد يوما في بيته لحمدلة على السلامة، والرجل صديق للوالد رحمه الله حيث عملا معا في مستشفى كريمة، فإذا به يقول عندما ذكر أحد الحضور أغنية (الجزيري بقت مخادة):

 الغنية دي تذكرني دايما بالأراك وأهل اللراك!

والحق يقال إن كلمات الأغنية تكاد تكون مفصلة تفصيلا على جزيرة بجبوج في الأراك بكل ما فيها من حراك، ولاغرو أن الأمكنة في منحنى النيل جلها -ان لم يكن كلها- تتشابه، ولا أخال راحلنا عبدالله محمد خير رحمه الله إن وقف في أيا منها لوجد ذات المشاهد في أنحائها جزرا كانت أو يبسا…

واسمحوا لي أن نتفيأ معا ظلال كلمات هذه الأغنية البديعة قبل أن تكمل معا ذكريات الأراك:

الجزيري

عبدالله محمد خير

الجزيري بقت مخادة

وتانى ختت طين زياده

السواقي البى الغرب طلعت قصادا

وفى ضهاري الرمله ناس زرعت مقادا

الجرف سبروقو ملَّح

والبحر فات منو روَّح

قام ولبس التوب وسرَّح

ومن بعيد بى إيدو لوَّح

قالوا مندلِّين يشوفوا

كل زول ينـزل جروفو

الجرف بالخصبة رجَّح

وللبذور الطيبة نَّجح

فى الأصيل قمريهو يصدح

لى نعيمو وخيرو يمدح

داك يسلك وداك ينقح

وداك بالشرقيي ينبح

جاى دافر القش متمسح

مرة يغطس ومرة يطفح

التبش نوارو فتَّح

والدخن قندولو دندح

خدَّر الشتل المصفَّح

جاب قلوب لى اهلو فرَّح

ياااه

الأراك (ست اللسم) حملت اسمين اثنين، إنها أراك ودسورج وهي كذلك أراك ودالفكي ابراهيم، لعمري انها حملت إسمين من (مودة ومن منى) كما غنى الراحل أحمد الجابري حين قال:

انا في العيون ببنيلو دارين

من موده ومن منى

وبضمو في قليبي انبساط

ومحبه فياضة وهنا.

وإذا بالإسمين يتعايشان بكل (محبة ومنى)، وازداد الاسمان متانة برباط المصاهرة بين الأسرتين العريقتين بالعديد من الزيجات، وكان لأسرتي شرف المصاهرة مع آل ودالفكي ابراهيم من خلال الشيخ محمد الحسن الذي ناسبنا في شقيقة لنا (ويحيدة ومشيحيدة) كما تقول حبوباتنا عندما يزدن في الثناء على وحيدة البيت من البنات…

 ألا رحم الله شيخنا أحمد، ومن قبله شيخنا محجوب، ومن ارتقى إلى الله من أبنائهما وبناتهما، وأسأل الله ان يبارك في الذين بقوا ومابدلوا -في المودة والمنى- تبديلا…

 وأسأل الله الرحمة للعم محمد الحسن السيد (ود السيد)، والعم عطا السيد والد المبدع عبدالحكم الأراك، والعم علي حسن والد زميلي وصديقي العزيز النور علي حسن، وللعم طه حمد، وللعم الأستاذ محمد شريف، والعم الخضر، والعم علي حمد احمد والد صديقي عصام، والعم علي عبدالله، ولصديقي النور علي حسن قفشاته التي لاتنتهي، وكذلك لصديقي عصام علي حمد احمد، واتذكر كذلك علي محمد شريف، وحسبو الخضر، وأحمد أبوعنجة، واحمد حسن احمد، والاحباب أولاد عمنا عبدالغني، ومن الجبل زميلي العزيز يوسف عبدالوهاب الذي أمضى سنوات في جمهورية اليمن برفقة الأخ العزيز أنور أحمد طه الشبلي ثم عادا إلى السودان، وإذا بي اليوم جار للأخ أنور هنا في الدمام،

اللهم أرحم واغفر لكل من مات ممن ذكرتُ، وبارك في البقية، انك ياربي وليُّ ذلك والقادر عليه…

في الأراك إبتدرت أولى خطواتي للولوج إلى عوالم الصبا، ويومها كنت أتهيأ إلى السفر إلى كريمة مقبولا في مدرسة كريمة الثانوية، قبل السفر بأيام أتذكر حفلة في منطقة الزغولة أحياها صديق أحمد لن أنسى خلالها رشاقة ابن المنطقة طه مساعد وهو يقود الكورص، لقد كتبت عن تلك الحفلة احدى حكاياتي السابقة بإسم (غدا ياحلوتي سأراك تبتسمي)، ستجدونها في صفحتي في الفيس…

وصفت الذهاب إلى كريمة بالسفر!، نعم كان الذهاب إلى كريمة سفرا، نعم كانت كريمة -حينها- سفرا و(بي تودو وقنودو)، وتذكرة السفر باللواري والبصات ما كانت شيتا هين، تغشتني ابتسامة الآن وانا أتذكر أحد أصدقائي -لن أذكر لكم إسمه-، ركب مرة أحد اللواري إلى كريمة، ثم (زاغ) في سوق كريمة دون أن يدفع مقابلا لصاحب اللوري، وعندما سأله رفيقه قال:

ياخي اللوري دا أصلا ماشي بينا وبلانا،

هههة.

ممن رسخ في الذاكرة الأستاذ طه سالم طه من السالماب، مربوع القامة ويزدان وجهه دوما بابتسامة تنبيك عن وجدان ريان بالطيبة والسماحة والوداد، ما ان يطل عليك الاّ وتتذكر حديث المصطفى صلوات الله وسلامه عليه بأن الأَرْوَاحَ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ مَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ…

كان كثيرا التردد على الوالد رحمه الله كي يستعير منه (مجلة العربي)، اذ للوالد اشتراك فيها يحرص على تجديده كل عام وان اضطره الأمر إلى السفر الى الخرطوم أحيانا، ما ان يلوح طه من بعيد الاّ ويبش له الوالد، فقد كان والدي رحمه الله يحب القراءة وأهلها، ما ان يجلس طه سالم مادا يمناه بالعدد السابق -الذي استعاره من قبل- الاّ ويشرعان في نقاش مقالات الراحل الدكتور أحمد زكي، ثم الدكتور أحمد بهاء الدين رؤساء التحرير المجلة، والعديد من المواضيع التي تتطرق لها المجلة في شتى ضروب العلوم والمعرفة والأدب والفن والجمال…

 كم كنت أحب سماع مخارج الأحرف لدى الأستاذ طه سالم رحمه الله، فقد كان رحمه الله يجيد نطق الثاء والقاف والذال، وذاك أمر غير مطروق عندنا نحن السودانيين، فدوالرجل محبٌّ للغة العربية، محسن لنطق أحرفها، مجيد لفنونها خلال حديثه ونقاشه، وطه سالم كان مهموما بالعمل العام في الأراك

لايألو جهدا في سبيل ذلك، كان إسلاميا

لا تكاد تجده الاّ في حراك دائم بين الأراك وكريمة والخرطوم وكأنه لايرتاح ابدا!…

ولم يقتصر هم طه سالم بالاراك، بل تمدد همه ليشمل الوطن الكبير، فإذا به تدفعه نفسه الوثابة إلى الإلتحاق بكتائب الدفاع الشعبي لمواجهة جون قرنق الذي أوشك -يومها- على احتلال مدينة الدمازين، خرج طه سالم بنفسه وماله ولم يعد من ذلك بشئ…

اللهم يارحمن الدنيا والآخرة، ياحنان يامنان، أسألك باسمائك الحسنى وصفاتك العلا أن تتقبل طه سالم شهيدا عندك، وتجعل مستقره في عليين، وتبارك في عقبه، وتصله بالدنيا موصل خير إلى أن ترث الأرض ومن عليها،

انك ياربي وليُّ ذلك والقادر عليه.

 واسمحوا لي يا أهل الأراك أن أختم حكايتي بالحديث عن الشاب (علي العربي)، إسمه علي أو أحمد لا أذكر الاسم جيدا، لكن الذي أذكره عنه إنه من حلة العرب الفوق من أهلنا الهواوير حسب ظني، كان يكبرني قليلا وصديقا لشقيقي عصام الذي يكبرني، ويحظى بوسامة بادية، وأهلنا الهواوير أصحاب وسامة لا تخطئها العين، لكن هيأته والملابس التي اعتاد ارتداءها لم تكن تشابه أبداً زي أبناء أهلنا العرب (وهي السروال والعراقي والسديري)، بل كان زيه الدائم بنطلون وقميص وجزمة …

وفي بعض الأحيان يكمل أناقته بنضارة شمس، كان كثير الشبه بشقيقي حاتم من حيث بياض اللون والتقاطيع، لذلك اعتاد العديد من زوارنا حسبانه شقيق لنا أو قريب، ما ان تشرق شمس كل يوم -خلال الاجازات المدرسية- الاّ ويطرق علي العربي باب بيتنا الخلفي المطل على (بلد بي تحت)، حيث اعتدت وأخوتي النوم في الحوش الخلفي،

ولعل الذي جعل الوالد رحمه الله أو الوالدة أطال الله عمرها لايستاءان من تكرار مجئ الصبي علي إلى بيتنا هو كمال أدبه وهمته البائنة وحرصه على مساعدتنا خلال أدائنا للكثير من الأعمال الخاصة بالمنزل، مما جعل الوالد رحمه الله يكلفه ببعض الأعمال الخاصة بالشفخانة والمنزل بمقابلٍ ماديٍ خلال أوقات الفراغ، وكم كانت تبدو على علي سيماء السعادة والابتهاج عندما يجد فرصة لقراءة صحيفة أو مجلة أو كتاب من كتب المغامرين الخمسة (تختخ ولوزة ونوسة وعاطف ومحب) التي كنت أتبادلها مع صديقي يوسف عبدالوهاب، والمرحوم الفنان سيف الدين قدقود رحمه الله وآخرين، قال لي علي العربي مرة وهو ينظر الى البعيد وكأنه يحادث نفسه:

-ياريتني لو اتعلمت عشان أبقا دكتور واللاّ مهندس…

قال بأنه لم يلتحق بمدرسة من قبل، انما تعلم القراءة والكتابة خلال طفولته عندما كان يعمل ساعيا في احدي المدارس الابتدائية في تنقاسي!

وعندما سألته عن السبب في ذلك قال لي بأن إلحاق الأبناء بالمدرسة لدى أسرته وأهله يُعَدُّ عيباً يستنكره الناس على الأب والأم!…

كان ينظر بإعجاب بائن لأسلوب الحياة الذي يراه في بيتنا (بيت الحكيم)، قال لي مرة:

-اتمنيت والله اني أكون بقرا زيكم، ولمن أجي من المدرسة أمرق هدوم المدرسة وألبس هدوم تانية، ولمن أجي أنوم كمان ألبس بجامة!

يومها…

لم أستطع تبين مشاعر علي العربي وأحاسيسه وهو يقول ذلك لي ولشقيقي خالد …

لكنني تبينتها لاحقا عندما استطعت الاحاطة ببيئة الحياة التي يحياها علي وأهله وهم حديثوا عهد بالبادية، فما كانوا -حينها- من أهل البلد ممن لهم (حق و طين) فيها، أمانيه قد تبدو بسيطة في ظاهرها، لكنها من العمق بمكان عندما يعلم المرء طبيعة وقساوة الحياة التي يعيشها علي وأمثاله في ذلك الزمان…

وبقي علي على حاله طيلة السنوات التي عشناها في الأراك، وظل يتنقل مابين بيتنا والشفخانة بالاضافة الى بيت شيخنا أحمد ود الفكي ابراهيم الكائن بالجوار حيث اعتاد شيخنا أحمد رحمه الله والحاجة راجنو رحمهما الله تكليفه ببعض المهام بعد أن زكّاه لهما الوالد والوالدة، ولكن في صباح يوم جمعة:

 إذا بصوت الوالد رحمه الله يرتفع عاليا في الشفخانة معنِّفاً لشخص ما، والشفخانة ملحقة ببيتنا، فهرولنا إليها لنجد رجلا بزيّ العرب تتدلى من عضده سكين مغروسة في جفير بنيّ عريض،

علمت بعد ذهابه أنه والد علي، وقد جاء يشكو للوالد رحمه الله (أبقان) عليهم حيث قال:

-الجنا بقا يلبس البنطلون والقميص وداير يبقالنا ولداً باطل!

أي والله، ذاك ماقاله الرجل بالحرف!

وقد أغضب كلامه الوالد رحمه الله وجعله يثور وهو يذكر إبنه علي بالخير ويقول للرجل:

-ولدك والله راجل ومابتجيهو عوجة، وياريت تخليهو يقرا المدرسة لأنو شاطر وبيبقالك سند بعدين…

لم أر علي العربي بعد ذلك اليوم البتة، لكنني علمت لاحقا بأنه هرب إلى الخرطوم ولم يعد الى الأراك مرة أخرى…

وإلى اللقاء ان شاء الله في الحكاية الحادية عشر.

adilassoom@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

خاطرة عادل عسوم

انسربت ساعات الليل الطويل، وإذا بالكون في مخاض، إنه مخاض فجر جديد، وإذا بشبح الشمس تتلصص م…