ذكرياتي في عوالم القطارات. عادل عسوم

أحب التنقل بالقطارات حبا جما، وان قدر المفاضلة بينه وبين اي وسيلة سير اخرى يكون الأرجح عندي،
قبل بضع أعوام قُدِّر لي تمثيل الشركة التي أعمل فيها هنا في السعودية خلال فعاليات ورشة عمل ضخمة للتحضير -بل الشروع- في إنشاء شبكة للخطوط الحديدية تغطي كل أرجاء المملكة، وقد خرجت من هذه الورشة مبهورا بالفوائد الكثيرة والمثيرة التي تجنيها الدول عندما تصبح السكة الحديد الوسيلة الأعلى كعبا في النقل بكل أشكاله فيها، كمثال فإن التكلفة المادية لنقل طرد بريدي بين مدينة وأخرى فإن المقارنة تقول بأن النسبة هي كالآتي:
عُشر القيمة (مقارنة بين السكة الحديد والطيران)!.
ربع القيمة (مقارنة بين السكة الحديد والسيارات)!.
سدس القيمة (مقارنة بين السكة الحديد والسفن)!.
ولعل الذي جعلني أتوقف كثيرا، تقرير من وزارة البيئة يتحدث عن التلوث البيئي الذي تحدثه السيارات في المدن، ويكاد المرء وضع كلتا يديه على رأسه مذهولا بالأرقام الصادمة للتلوث الناتج من عوادم السيارات!
وقد دشنت دولة الامارات العربية المتحدة التي -من قبل- شبكة قطارات بديعة تربط جزءا كبيرا من إمارة دبي، حيث اثبتت نتائج القياسات البيئية انخفاض نسبة التلوث في دولة الامارات العربية من غاز أول أوكسيد الكربون وأكاسيد الكبريت إلى أقل من (10ppm) فقط بعد أن كانت تصل إلى اضعاف هذا الرقم من قبل…
ولعي بالقطار جعلني أتخيره أينما يممتُ خلال أسفاري العديدة إلى دول العالم، ومافتئ القطار الوسيلة الأحب لي خلال تنقلي بين مدن أوربا وأمريكا، بل حتى بين دولها، ولن أنسَ رحلتي من لندن إلى باريس من خلال نفق المانش، ومن باريس جنوبا إلى مدينة نيس، كل ذلك كان عن طريق القطار، وكذلك اعتدت السفر فيه من مدينة فرانكفورت إلى أقاصي شمال ألمانيا إلى مدينة (لوبك) على قطارٍ لهم سريع يسمونه ال(I.C.E)، وفي مدينة هامبورق انتقلت إلى قطار آخر اخذني إلى أقصى شمال هولندا لمدينة (خورونيقان) التي يعيش فيها شقيقي الأكبر حاتم عسوم،
ومنها كذلك إلى مدينة (مدل بيرق) في الشرق لزيارة شركة تصنع اجهزة الفصل الكروماتوقرافي تسمى (Chrompack)، مبناها يربض على مرتفع تكسوه ملاءة من الورود الملونة البديعة، التقتني في مدخل الشركة حسناء هولندية ممشوقة وفارعة، انحنت لي مرحبة وقالت (خدو مداخ)…
ثم كانت عودتي أيضاً بالقطار إلى مطار (أشخوبول) في أمستردام، حيث امتطيت طائرة الKLM لأعود أدراجي إلى مكان عملي في السعودية…
ولكن يبقى للقطار الآيرلندي طعمه وألقِهِ على الرغم من علو كعب الICE الأوربي عليه…
في الخاطر احدى رحلاتي على هذا القطار الذي ينطلق من دبلن العاصمة الى بغيتي وهي مدينة شانون الأنيقة…
في الطريق امتعت عياني بمرأى ابقارهم المرقطة باللونين الابيض والأسود ترعى في سهول خضراء على مد البصر، وقد اخبرت بأن أرض آيرلندا لاتصلح الزراعة لكونها تتراكم فيها جذور اشجار قديمة تشكل طبقة تسمى ال Turff يحفرونها ليخرجوا منها مكعبات للفحم،
اما القطار الأمريكي فله عوالمه المدهشة، في الخاطر محطة قطارات (فلاديلفيا) أو (فيلي) كما يسميها أهلها، وانها بالفعل أكبر محطة للقطارات في العالم، وصلتها وقد كنت في طريقي من مدينة (بتسبيرق) في ولاية (بنسلفانيا)، بعيد اكمالي لفترة تدريبية في شركتين تتواجد مقراتهما في مدينة صغيرة بجوار بتسبيرق اسمها Bethlehem في ذات الولاية، نعم اسمها (بيت لحم)!
وقد انتابتني ذات الدهشة التي أخالها انتابت كل قارئ لاسمها لوجود مدينة بهذا الاسم في الولايات المتحدة الأمريكية!
واسم الشركة الأولى هو (GOW MAC) وهي تعمل أيضا في مجال تصنيع أجهزة الفصل الكروماتوقرافي، والشركة الثانية اسمها شركة (BACHARACH) وتنطق الCH كافا، وهذه الشركة تعمل في مجال تصنيع أجهزة فحص الغازات (gas detection systems & monitors)…
ولعمري إن محطة فيلادلفيا هذه ليست محطة قطار فقط، انما بلد بكامله!
كنت في طريقي إلى مدينة آرلنقتون في ولاية فرجينيا لزيارة نسيبي وهو من أبناء بورتسودان…
سحبت حقيبتي خلفي وترجلت من القطار الأنيق الذي أتى بي من ولاية بنسلفانيا، فإذا بالدنيا كلها أمامي!
والمحطة تتمدد تحت سقف مبنى ضخم لم أر مبنى في ضخامته وسعته من قبل!
وكان ينبغي لي قطع مسافة طويلة سيرا على الأقدام وسط مئات البشر المتراصين على المقاعد، وبعضهم وقوف، لكي أصل الى مكتب الحجز باحثا عن موقع القطار الذاهب إلى مدينة آرلنقتون في ولاية فرجينيا من بين مئات القطارات الرابضة هناك، وهنا ينبغي لي أن أكتب عن ملاحظة لم تزل تتبدى لي كلما تذكرت أمريكا:
يالهذا (اللوتري) الذي فعل بتلك البلاد الأفاعيل!
تلتفت يمنة ويسرى فيقع بصرك على جل تقاطيع أعراق الدنيا ان لم تكن كلها تحت سقف تلك المحطة، وإذا بالناس يتحدثون بكل لغات الدنيا ولا أثر للغة الانجليزية على الاطلاق!
ولا أدري لماذا لم ينصهر كل هؤلاء الناس في بوتقة الوطن الأمريكي؟!
والذي يحار له المرء أن هؤلاء ليسوا كلهم قادمون جدد إلى أمريكا، فالكثير منهم ولد ونشأ هناك، لكن ظل الكثير منهم متجذرا لأصله وعرقه، وقد تبين لي ذلك أكثر عندما زرت المطاعم الصينية والآسيوية وكذلك مطاعم لاثنيات افريقية في فرجينيا وفي واشنطن وفي نيويورك وحتى في مانهاتن الراقية!
تلج الى المطعم فتحسب أنك لست في أمريكا الناطقة بالإنجليزية!…
ولعلي أذكر هنا مدير التسويق لاحدى الشركات التي ذرتها وهو تايواني الأصل قال لي بأنه مولود في أمريكا، أقسم لكم بأن لغتي الانجليزية أفضل من لغته الانجليزية بكثييييير!
أمريكا هذه تَحمِل بذور فنائها في داخلها، والسبب في ذلك عدم انصهار الأعراق والقوميات في بوتقة الوطن الجديد، فما فتئ الناس فيها يتشبثون بأصولهم لغة وثقافة وعقائد وتراثا ومظاهر اجتماعية، ولعل الحديث عن وقائع التجسس التي قام بها أمريكان من أصل صيني، وياباني، وروسي قبل سنوات لصالح (بلد الجذور) لدليل دامغ على ذلك، وبين يدي ذلك تذكرت كتاب (امريكا التي رأيت) الذي كتبه سيد قطب رحمه الله في ابتداراته.
وصلت الى مدينة آرلنقتون الصغيرة، انها مدينة تربض على مرتفع يطل على واشنطن العاصمة، وصلتها خلال أمسية جميلة فبدت لي سماء أمريكا من الزرقة والصفاء بمكان، وكأن السماء قد غُسلت لتوها بالماء المقطر، و(بُخَّ) عليها ملمّع الزجاج ثم (تُمِّرَت تتميرا)…
فسألت نفسي:
هل هذه أمريكا التي يقال بأنها أكبر الملوثين للعالم؟!
ويجدر بي أن أعرج إلى القطار الماليزي الذي أحسبه من أكثر القطارات أناقة في العالم، والسبب في ذلك أنهم بدأوا من حيث انتهى الآخرون، تستطيع أن تستقل القطار من داخل سقف مطار كوالالمبور الفخيم، فينطلق بك ويطوف بكل أرجاء المدينة وبتروجايا العاصمة السياسية مضافاً اليها مدن أخرى، ولكم أدهشني كون هذا القطار يسير على (قضيب واحد فقط)!
ثم ان محطاته عبارة عن طابق من طوابق عمائر سكنية عادية، فتصعد إلى المحطة من خلال سلم كهربائي، تجد في مولجه ماكينة التذاكر كما هو الحال في مداخل القطارات في كل المدن الغربية، ويسير القطار على أعمدة خرسانية احادية شاهقة تدع المجال فسيحا على الأرض لأيما حراك للناس والمركبات، وقد كانت تنقلاتي في ماليزيا عن طريق هذا القطار الأنيق، وذهبت إلى سوق (CHINA TOWN)، وهو سوق شعبي كبير مكتظ بالبضائع الصينية، ولعله أخذ اسمه بسب العرقية الصينية التي تكاد تسيطر على كل أرجائه،
وقد أعلمني صديق يعمل محاضرا في احدى جامعاتهم بأن السبب في سعي ماليزيا لاستجلاب العرقية الصينية وكذلك الهندية وتوطينهم، ان سكان البلد من عرقية الملايو ليسوا (أهل شدايد) ومكانوا -بطبعهم- اهل تجارة، يضاف إلى ذلك أميّة واصرار للعيش في القرى دون المدن الجديدة التي شرعوا في بنائها وكانت للدكتور مهاتير محمد رحمه الله بصماته في ذلك، فأصبحت الأعراق الجديدة عمادا حقيقيا لتنمية اقتصادية مشهودة في تلك الدولة، وماليزيا بلد سياحي من الطراز الفريد، دُهشت حقا خلال زيارتي للملاهي المائية البديعة في مدينة ألعاب (صنواي لاجون) الضخمة، أما مرتفعات (كاميرون هايلاند) التي تُزرع فيها الفراولة؛ فهي لعمري تجسد أجمل ما على الأرض من جمال، تقف على تلة فيها وتنظر إلى الأرض المترامية فتجدها منبسطة بالخضرة الموشاة بحبات الفراولة الفاقعة الحمرة وكأنها (أزرار) تجمل ثوب فتاة، ومن دون ذلك شلالات روبنسون، وشلال اسكندر، وشلال باريت الأخّاذة، تَهَب المشهد ذَوبا من ألق، فتحار أأنت في الدنيا أم انتقلت الى دنياوات أخر!، واتصلت علاقتي بماليزيا حيث اتيت بابني الأكبر في العام التالي ليدرس الجامعة فيها.
(لعلي أواصل ان شاء الله).
adilassoom@gmail.com
دارفور بعد هزيمة الدعم السريع: هل تنجو القبائل العربية من لعنة الوصم؟ د. عبد الناصر سلم حامد باحث في إدارة الأزمات ومكافحة الإرهاب
مدير برنامج السودان وشرق إفريقيا – مركز فوكس للبحوث مقدمة: نصر محفوف بالخطر …