الأصابع الخفية في حروب السودان د ياسر يوسف إبراهيم

( في كمبالا سملت السفارة الإسرائيلية رسالة إلي رئيس الوزراء الإسرائيلي ليفي اشكول ، هنأته فيها وحكومته وشعب الله المختار وأطفال إسرائيل علي الإنتصار علي العرب في حرب 1967 ) ..
من مذكرات الفريق جوزيف لاقو أحد مؤسسي حركة التمرد في جنوب السودان ..
في السياسة يحتاج قادة الدول إلي إمتلاك فكر إستراتيجي يحيط بطبيعة التحديات التي يعايشونها ، ومعرفة البيئة الدولية والداخلية التي تتحدد علي ضوئها الخطط ، وبهذا المعني فإنه ينطبق عليها تعريف الفيلسوف الألماني أرنست هيجل من أن ( السياسة هي علم الأحياء التطبيقي ) ولأن علم الأحياء يساعد علي فهم البيئة ودورها في نمو الكائنات الحية ، فإن فهم البيئة السياسية بصورة واقعية يساعد علي إنتاج الأفكار التي تمكن القادة من التعامل مع الظواهر السياسية بواقعية وعقلانية ، ومن الظواهر التي غشيت العقل العربي وسيطرت عليه عقودا كثيرة هي نظرية المؤامرة التي تفترض وجود جهة ما تكيد للدول العربية بإنتظام ، وخطورة سيطرة ذلك النوع من التفكير أنه أفضي إلي إعفاء الذات من تحمل نتائج التقصير والفشل من ناحية ، أو أنه أفقد العقل العربي ميزة التفكير الموضوعي ليعالج الظواهر السياسية بعقلانية دون ( تهويل أو تهوين ) كما يقول الدكنور محمد المختار الشنقيطي ، وفي هذا المقال الذي نعالج فيه أسباب إستمرار الحروب في السودان بصورة حيرت المراقبين سنحاول تلمس الأسباب الجوهرية لهذه الظاهرة تركيزا علي أصابع خفية ظلت تحتفظ بدور بارز وكبير في تحريك الأحداث ، وإذ نفعل ذلك سنحاول تجنب التفسيرات الباطنية التي تعظم نظرية المؤامرة وتستسهل بها الوصول للنتائج ..
ما نعنيه بالأصابع الخفية في حروب السودان التي إمتدت منذ العام 1955 قبل سنة من إعلان إستقلال السودان وإلي الآن ، هي التدخلات الخارجية التي يمثل فيها الكيان الإسرائيلي رأس الرمح والماكينة التي تحرك الأحداث من وراء المشهد ، وذلك دون إغفال الأخطاء الكبيرة التي إرتكبتها النخبة السودانية بجميع توجهاتها الفكرية وإنحيازاتها السياسية ، وواحدة من هذه الأخطاء هي عدم الإدراك الصحيح للدور الإسرائيلي في حروب السودان وإيجاد المقاربات الناجعة للتعامل معه ، فقد حرصت إسرائيل باكرا علي فهم السودان وتعقيداته ، وبلورت إستراتيجية للتعامل معه مدفوعة بمخاوف أمنية وبتفسيرات إسطورية قديمة تعتقد أن تابوت نبي الله موسي دفن في كنيسة إكسوم الحبشية ، وأن الملوك الأثيوبيين الذين حكموا السودان في زمان غابر تجري فيهم دماء يهودية من نسل نبي الله سليمان عليه السلام ، وأن هناك سبط من بني إسرائيل ضاع في منطقة البحيرات وجنوب السودان ولا بد من العثور عليه ، علي أن النص الحاكم للسياسة الإسرائيلية تجاه السودان تتلخص في التصريح الشهير لدافيد بن غوريون الذي يقول فيه ( نحن شعب صغير وإمكانيانتا محدودة ، ولا بد من إختزال هذه المحدودية في مواجهة أعدائنا من الدول العربية من خلال تشخيص ومعرفة نقاط الضعف لديها وخاصة العلاقات القائمة بين الجماعات والأقليات الإثنية والطائفية ، حتي نضخم هذه النقاط إلي درجة التحول إلي معضلة يصعب حلها أو إحتواؤها ) ..
يؤسس هذا النص الحاكم للنهج الإسرائيلي في التعامل مع الدول العربية ، حيث صاغت من خلاله الدولة العبرية نظرية شد الأطراف للدول العربية أو بترها إذا لزم الأمر كما حدث في جنوب السودان ، وتقوم تلك النظرية علي إحداث القلاقل في أطراف البلدان العربية إما إستثمارا للخلافات العرقية ، أو تحريكا للنزاعات الحدودية ، وهو ما يحقق الهدف المركزي بإشغال هذه الدول بأنفسها حتي لا تكون جيوشها عامل دعم لدول المقاومة التي تقاتل إسرائيل ، وللتأكيد علي قدم المخطط الإسرائيلي نستعين بمحاضرة رئيس الموساد ( مائير عاميت ) عام 1959 والتي قدمها بمناسبة تخريج دفعة جديدة ، حيث يقول ( لمحاصرة التهديد الذي جسدته حركة المد القومي كان لابد أن ننجح في إثارة النوازع النفسية لدي الجماعات غير العربية داخل الدول العربية وخاصة في العراق وسوريا ولبنان والسودان ) ..
ولتتبع حجم الخراب الذي قامت به الأصابع الخفية في السودان نحتاج دراسة عدد من الوثائق علي النحو التالي :
وثيقة كيفونيم التي قدمها آرييل شارون عام 1983 لإجتماع وزراء حلف الناتو والتي لخصت إستراتيجيات إسرائيل للتعامل مع دول العالم العربي والإسلامي ، وفيما يتعلق بالسودان ورد ما يلي ( السودان أكثر دول العالم العربي والإسلامي تفككا ، فإنها تتكون من أربع مجموعات سكانية كل منها غريبة عن الأخري ، فمن أقلية عربية مسلمة سنية تسيطر علي أغلبية غير عربية إلي وثنيين إلي مسيحيين ) وتقرر تلك الوثيقة في خاتمتها مؤكدة ( إن دولا مثل ليبيا والسودان لن يكون لها حضور بصورتها الحالية ) ..
في العام 2008 ألقي آفي ديختر وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي محاضرة لكبار القادة الأمنيين ، وورد فيها ما يلي ( السودان شكل عمقا إستراتيجيا لمصر في حرب 1976 ، حيث تحول إلي قواعد تدريب وإيواء لسلاح الجو المصري وللقوات البرية ، وأرسل قواته لمنطقة القناة أثناء حرب الإستنزاف ، لذلك كان لابد أن نعمل علي إضعافه وإنتزاع المبادرة منه ومنعه من بناء دولة قوية موحدة ، هذا ضروري لدعم وتقوية الامن القومي الإسرائيلي ) ،
في كتابي ( مهمة الموساد في جنوب السودان ) لعميل الموساد ديفيد بن عوزيل والمعروف بإسمه الحركي ( الجنرال جون ) وكتاب ( إسرائيل وحركة تحرير جنوب السودان ) للكاتب الإسرائيلي والعميد المتقاعد من جهاز الموساد موشيه فرجي ترد تفاصيل مخيفة عن حجم الدعم العسكري والسياسي والإقتصادي الذي قدمته إسرائل لحركة التمرد في جنوب السودان ، حيث شمل إرسال شحنات السلاح وإرسال الخبراء وتدريب عشرات الآلاف من الجنود ، والمساهمة في تفجير الكباري وإحتلال بعض المدن ، وتعطيل مشاريع التنمية ، يقول موشيه فرجي في كتابه إن التحرك الإسرائيلي نجح في جنوب السودان لعدة عوامل ، وأبرزها ( إحباط الدعم العربي للحكومة السودانية ، وتوقيف العمل في قناة جونقلي التي كان من المؤمل أن توفر 5 مليار متر مكعب من المياه تتقاسمها مصر والسودان ، حيث حذرت إسرائيل الجنوبيين من أن ذلك المشروع سيكون وبالا عليهم ) ، كما أن إسرائيل نجحت في تنمية المشاعر القومية لدي الجنوبيين مما ساعدهم علي ( حسم خيار الإنفصال عن الشمال ) ..
نستخلص من هذه الوثائق أن إسرائيل صنفت السودان منذ البداية بإعتباره عدوا إستراتيجيا ، ولذلك تعاملت معه علي هذا الأساس في مخططاتها التي هدفت إلي إشغاله طوال الوقت بالنزاعات الداخلية ، يقول وزير الأمن الإسرائيلي الأسبق آفي ديختر ( أقدمنا علي إنتاج وتصعيد بؤرة دارفور لمنع السودان من إيجاد الوقت لتعظيم قدراته ، إستراتيجيتنا التي ترجمت علي أرض الجنوب سابقا وفي غربه حاليا نجحت في تغيير مجري الأوضاع في السودان نحو التـأزم والإنقسام ، الصراعات الحالية في السودان ستنتهي عاجلا أو آجلا بتقسيمه إلي عدة دول أو كيانات ) ،
ونستطيع تلخيص الرؤية الإسرائيلية تجاه السوادن في النقاط التالية
إستهداف مصر عبر جارها الجنوبي ، والعمل الجاد علي تعطيل إستفادتها من جهود هذا الجار .
إشغال السودان بإشعال النزاعات فيه ، وتأجيج روح الخلاف بين المكونات المختلفة .
السعي لعدم إستفادة السودان من موارده الهائلة حتي لا يتحول إلي دولة مركزية .
إضعاف السودان عبر سياسة شد الأطراف أو بترها ، وهو ما يؤكده آفي ديختر ( سودان هش ومجزأ خير من سودان قوي وفاعل ) ..
ولم يقتصر الإستهداف الإسرائيلي للسودان علي إشعال النزاعات وإشغاله بالحروب فقط ، ولكن تواصلت المساعي الإسرائيلية في المجالات الديبلوماسية والمنظمات الدولية لخنق السودان وتشديد الحصار عليه ، ففي أوج أزمة دارفور أنشأت المنظمات اليهودية تحالفا ضم أكثر من 180 منظمة حول العالم للترويج للإبادة الجماعية في دارفور ، وانطلقت أنشطة تلك المنظمات من متحف الهولوكوست بواشنطن تحت رعاية منظمة أنقذوا دارفور والوكالة اليهودية للخدمة الدولية ، وتوجت تلك الجهود بإحالة ملف السودان للمحكمة الجنائية الدولية ..
في الحرب الحالية والتي إندلعت بعدما شنت مليشيا الدعم السريع هجوما مباغتا علي القوات المسلحة قبل أن توسع تكتيكاتها الحربية إلي إستهداف البنية التحتية وتدمير المؤسسات العامة والخاصة بغرض إعادة السودان قرونا للوراء ، كانت إسرائيل هي الحاضر الخفي الأبرز في المشهد ، فقد إندلعت الحرب بعد نشاط إسرائيلي محموم في البلاد بعيد تطبيع العلاقات مع السودان وتوقيع حكومة الفترة الإنتقالية برئاسة حمدوك علي الإتفاقيات الإبراهيمية ، حيث إنخرطت إسرائيل في نشاط ديبلوماسي محموم تجاه الخرطوم ركز علي الإنشغالات الإسرائيلية الخاصة بجمع معلومات حول منظومة الصناعات الدفاعية السودانية ( وتجنيب السودان مخاطر الخلايا الإيرانية ) كما صرح مسؤول إسرائيلي بعد زيارة للعاصمة الخرطوم عام 2020 ، ولإخفاء نواياها الحقيقية بإطالة أمد الحرب عرضت إسرائيل وساطة بين الجيش والدعم السريع وفقا لبيان أصدره وزير الخارجية وقتها إيلي كوهين الذي أكد أن إسرائيل تعمل عبر عدة قنوات من أجل التوصل لوقف إطلاق النار ، ولكن لم يرد أي ذكر لتلك الوساطة مرة أخري ، مما يشير إلي أن الدولة العبرية تساهم في إطالة أمد الحرب لإضعاف الطرفين تنفيذا لنظرية الأكاديمي الصهيوني إدوارد لوتواك ( أمنحوا الحرب فرصة ) ، كما أن المعلومات بدأت تتكشف عن حجم العلاقات الكبيرة بين إسرائيل وحميدتي الذي حرص علي فتح قنوات تواصل مستقلة عن الجيش والدولة منذ فترة مبكرة ، ففي تقرير نشره موقع واللا الإخباري قال إن طائرة رئيس الموساد حطت رحالها في الخرطوم في يونيو من العام 2021 وعلي متنها قيادات من الموساد إلتقت بحميدتي وقادة من الدعم السريع ، كما أكد الموقع أن حميدتي سبق وأن إلتقي برئيس الموساد في أبو ظبي في أغسطس من العام 2020 ، وبعد نشوب الحرب نشرموقع ميدل إيست آي مقالا بعنوان كيف ستكسب إسرائيل الحرب في السودان أكد فيه أن إسرائيل حريصة علي كسب الدعم السريع للحرب من واقع الخدمات التي قدمها حميدتي في ليبيا بمحاربة الإسلاميين هناك وتعهده ( بتفكيك الإسلاميين داخل الجيش السوداني ) ..
وفي الفترة الأخيرة وبعد أن مالت كفة الإنتصار لصالح الجيش ، وبدا أن الجيش قادر علي حسم المعركة تعالت أصوات إسرائيلية تتهم السودان بالتعاون مع إيران وتنادي بالتدخل الإسرائيلي المباشر لأن الجيش السوداني أصبح ( حماس أفريقيا ) حسب تلك المزاعم …
تحتاج القيادة السودانية إلي إعادة تكييف علاقاتها الخارجية بما يضمن محاصرة المخططات الآثمة ووأدها قبل أن تواصل تدمير المقدرات السودانية ، وفي هذا الخصوص فإن السودان بحاجة إلي جهود أصدقائه للمساهمة في دعم الشرعية التي يمثلها الجيش السوداني والحكومة المدنية برئاسة الدكتور كامل إدريس ، كما أن القيادة السودانية بحاجة إلي مجهودات تعزز تماسك الجبهة الداخلية وتفوت علي المتربصين مخططاتهم الآثمة …
وا أسفاي عادل عسوم
إنها من ماتعات الزمن الجميل… كلماتها معجونة بطين جروف الشمال، اذ خرجت كلماتها مغناة …