تنسيقيات القبائل الحاضنة للدعم السريع في السودان.. قراءة في النشأة، السلوك، والمصير بقلم: عبدالمنان أبكر عمر 

مقدمة

منذ اندلاع الحرب بين الجيش السوداني ومليشيا الدعم السريع انكشفت بنية الصراع على مستويات متعددة؛ عسكرية، سياسية، واجتماعية. أحد أبرز مظاهر هذا التعقيد كان الدور الذي لعبته بعض المكونات القبلية خاصة في إقليمي دارفور وكردفان التي شكلت ما بات يُعرف بـ”التنسيقيات القبلية” والتي عملت كحاضنة للمليشيا في مرحلة الصعود العسكري للدعم السريع. ومع تغير موازين القوى ميدانيًا لصالح القوات المسلحة السودانية بدأت هذه التنسيقيات تُطلق مبادرات وتصريحات توحي بقطع الصلة مع المليشيا ومحاولة الظهور في صورة جديدة.

تهدف هذه الورقة إلى تحليل طبيعة هذه التنسيقيات، دوافع تحركاتها الأخيرة، ومدى صدقيتها، كما تبحث في مستقبلها السياسي والاجتماعي في ضوء المستجدات العسكرية والمجتمعية في السودان.

أولًا: النشأة والدور في بداية الحرب

عقب اندلاع المواجهات في أبريل 2023، اندفعت مليشيا الدعم السريع نحو تجنيد واستقطاب عناصر من القبائل العربية بدارفور وكردفان معتمدة على علاقات سابقة ومصالح مشتركة تم بناؤها خلال سنوات طويلة من التغلغل في المجتمعات المحلية مستفيدة من ضعف الدولة وانتشار السلاح والمال السياسي.

برزت في هذه الفترة ما يسمى بـ”تنسيقيات القبائل” وهي كيانات أهلية هجينة تتكون من رموز قبلية، سماسرة حرب، وقيادات اجتماعية موالية للدعم السريع. وقد لعبت هذه التنسيقيات أدوارًا متعددة:

التحشيد والتجنيد.

تأمين الإمدادات اللوجستية.

تبرير الجرائم وتزيين صورة المليشيا.

العمل كواجهة سياسية واجتماعية للدعم السريع.

ثانيًا: دوافع التحول الخطابي لهذه التنسيقيات

مع التقدم الكبير للقوات المسلحة السودانية، لا سيما في الخرطوم والجزيرة واتساع دائرة الرفض الشعبي للدعم السريع بدأت هذه التنسيقيات في إصدار بيانات وتصريحات توحي بمراجعة المواقف وقدمت نفسها كطرف محايد أو ساعٍ للسلام.

لكن هذه المبادرات لم تترافق مع خطوات عملية ملموسة، مثل:

سحب المقاتلين من صفوف الدعم السريع.

إعلان القطيعة الصريحة مع قيادة المليشيا.

كشف شبكات التمويل والتسليح.

هذا السلوك الانتهازي يشير إلى أن معظم هذه التنسيقيات تسعى إلى:

1. حماية مصالحها حال انهيار الدعم السريع.

2. تهيئة موقع تفاوضي في أي تسوية سياسية قادمة.

3. الإبقاء على خطوط اتصال مزدوجة مع الطرفين (الجيش والدعم السريع).

ثالثًا: قراءة في الموقف المتوقع من الجيش السوداني

من المرجح أن تتبنى القيادة العامة للقوات المسلحة استراتيجية مركبة في التعامل مع هذه الكيانات تأخذ في الاعتبار:

ضرورة العدالة والمحاسبة لكل من تورط في جرائم أو دعم مباشر للمليشيا.

تجنب العقاب الجماعي للقبائل ككيانات اجتماعية.

استيعاب العناصر المعتدلة التي لم تتورط بشكل مباشر.

إعادة بناء الإدارة الأهلية على أسس تمثيلية عادلة، تضمن خروجها من عباءة الدعم السريع.

كما يتوقع أن تعمل الدولة على تفكيك البنية المالية والسياسية والاجتماعية التي اعتمدت عليها هذه التنسيقيات، خاصة تلك التي تورطت في تجنيد الأطفال، نهب المساعدات، أو ارتكاب انتهاكات.

رابعًا: السيناريوهات المستقبلية للتنسيقيات القبلية

1. الاندثار والتفكك: في حال الانهيار الكامل للدعم السريع واستعادة الدولة السيطرة، فإن هذه الكيانات ستفقد وظائفها ومبررات بقائها.

2. التحول إلى أدوات سياسية محلية: قد تحاول بعض هذه التنسيقيات إعادة إنتاج نفسها كممثلين محليين، خصوصًا إذا ما تم الدفع نحو تسوية سياسية شاملة بضغوط خارجية.

3. المواجهة مع الدولة: في حال رفضت هذه الكيانات الاعتراف بانتصار الدولة وقررت مواصلة التمرد، فستصبح أهدافًا عسكرية وأمنية مباشرة.

4. إعادة الدمج المشروط: قد تتاح فرص لإعادة إدماج بعض عناصر هذه التنسيقيات ضمن ترتيبات المصالحة والعدالة الانتقالية بشرط الالتزام بميثاق وطني جديد يعترف بوحدة السودان وشرعية مؤسساته.

خاتمة

إن ظاهرة “تنسيقيات القبائل” الحاضنة للدعم السريع تمثل نموذجًا واضحًا لاستغلال البنية القبلية في الصراع السياسي والعسكري وهو ما يشكل أحد تحديات بناء الدولة السودانية الحديثة. لكن في المقابل، فإن تفكيك هذه البنى الهشة لا يتطلب فقط الحسم العسكري، بل رؤية شاملة لإعادة هيكلة العلاقة بين الدولة والمجتمع، تقوم على:

إحياء قيم المواطنة.

تقوية مؤسسات العدالة والمحاسبة.

دعم المجتمعات المحلية لإنتاج قيادات جديدة غير مرتهنة للمليشيات أو المصالح الضيقة.

إن مستقبل السودان لا يمكن أن يُبنى على أنصاف المواقف والانتهازية السياسية بل على وضوح في المواقف، صدق في التوبة، وعدالة في المحاسبة.