‫الرئيسية‬ مقالات الفاشر… حصار الجوع في حرب السودان د. عبدالناصر سُلُم حامد باحث في إدارة الأزمات ومكافحة الإرهاب
مقالات - ‫‫‫‏‫يوم واحد مضت‬

الفاشر… حصار الجوع في حرب السودان د. عبدالناصر سُلُم حامد باحث في إدارة الأزمات ومكافحة الإرهاب

 

مدير برنامج شرق إفريقيا والسودان – فوكس (السويد)

في قلب دارفور، تعيش الفاشر هذه الأيام واحدة من أحلك لحظات تاريخها. مدينة بأكملها تحاصرها قوات الدعم السريع، ليس فقط بالسلاح والرصاص، بل بما هو أقسى: الجوع.

فالحياة اليومية تحولت إلى كابوس بطيء الإيقاع؛ أسواق مغلقة، طرق مقطوعة، أفران فارغة، ومستشفيات بلا دواء. إنها حرب صامتة لا يُسمع فيها دوي المدافع بقدر ما يُسمع فيها أنين الأطفال الجائعين.

 

الحصار على الفاشر ليس حدثًا عابرًا في الحرب السودانية، بل يمثل تكتيكًا استراتيجيًا متعمدًا. فقد عمدت قوات الدعم السريع إلى قطع كل خطوط الإمداد المؤدية إلى المدينة، وتدمير المخازن، ومنع وصول الغذاء والدواء. تقارير الأمم المتحدة أكدت أن “الوضع في الفاشر هو الأسوأ منذ اندلاع النزاع”، بينما وصفت منظمات إنسانية ما يجري بأنه “تجويع ممنهج يرقى إلى جريمة حرب”. ووفق مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، فإن أكثر من 800 ألف شخص في الفاشر مهددون بالمجاعة إذا استمر الحصار دون تدخل.

 

الصراع على الفاشر ليس فقط عسكريًا، بل سياسيًا ورمزيًا أيضًا. الجيش السوداني يرى في المدينة آخر معقل استراتيجي له في دارفور، ورمزًا لوجود الدولة. أما قوات الدعم السريع، فتسعى من خلال إخضاع الفاشر إلى إثبات أنها ليست مجرد مليشيا متنقلة، بل قوة قادرة على السيطرة وإدارة مدن كبرى. وهكذا، فإن الحصار هو جزء من صراع أكبر على هوية السودان ومستقبله السياسي. وفي المقابل، تكشف مأساة الفاشر عن عجز القوى المدنية والسياسية السودانية التي انشغلت بصراعاتها البينية ولم تستطع أن تقدم موقفًا موحدًا أو تضغط لوقف الكارثة.

 

البعد الإقليمي يضيف مزيدًا من التعقيد. فدارفور المتاخمة لتشاد وليبيا وإفريقيا الوسطى ليست مجرد ساحة محلية، بل عقدة إقليمية متشابكة. انهيار الفاشر أو سقوطها جوعًا سيؤدي إلى تدفق موجات جديدة من اللاجئين نحو دول الجوار، ويزيد من هشاشة الأمن الإقليمي في منطقة أصلاً مثقلة بالنزاعات والتهريب وتجارة السلاح.

 

في الشارع الفاشري، تتجسد المأساة بأبسط صورها وأكثرها قسوة. أمهات يبعن آخر ما يملكن من مقتنيات للحصول على دقيق أو عدس، شباب ينظمون أنفسهم لحماية الأحياء من الفوضى، ومساجد تحولت إلى مراكز إغاثة محلية. ورغم هذا التضامن الأهلي اللافت، فإن قدرة الناس على الصمود ليست بلا نهاية. كل يوم إضافي تحت الحصار يعني أطفالًا أكثر يفقدون حياتهم بسبب الجوع، وأسرًا تنهار تحت وطأة الانهيار الاقتصادي، ومجتمعًا يُدفع إلى حافة الانفجار.

 

من الناحية القانونية، ما يحدث في الفاشر لا لبس فيه. اتفاقيات جنيف تحظر بشكل قاطع استخدام التجويع كسلاح. والبروتوكولات الإضافية تعتبر حرمان المدنيين من الغذاء جريمة حرب صريحة. ومع ذلك، فإن الإفلات من العقاب يظل سيد الموقف. لا محاكمات، لا لجان تحقيق، ولا آليات مساءلة فعالة. إن صمت النظام الدولي أمام هذه الانتهاكات يمثل مشاركة غير مباشرة في الجريمة.

 

تاريخيًا، لم يكن الحصار مجرد أداة عسكرية، بل وسيلة لإعادة تشكيل التوازنات السياسية. في سراييفو، كان الهدف فرض واقع سياسي جديد على البوسنة. في حلب، إعادة إخضاع المدينة لسلطة النظام. واليوم في الفاشر، الهدف هو إخضاع شمال دارفور لمعادلة جديدة من القوة تسعى قوات الدعم السريع إلى فرضها مهما كان الثمن.

 

لكن وسط كل هذا الظلام، ما تزال هناك بارقة صمود. شبكات التكافل الاجتماعي ما تزال تقاوم، الأسر تتقاسم لقمة العيش، والشباب يحاولون تنظيم مبادرات محلية للبقاء. هذه الروح تعكس أن الحصار قد يرهق الأجساد لكنه لم يكسر الإرادة. غير أن هذا الصمود مهدد بالانهيار إذا استمر العالم في تجاهل الكارثة.

 

في النهاية، ما يحدث في الفاشر ليس مجرد فصل من فصول الحرب السودانية، بل هو اختبار مزدوج: اختبار لقدرة المجتمع الدولي على حماية المدنيين، واختبار لقدرة السودانيين على الصمود أمام واحدة من أبشع استراتيجيات الحرب.

الفاشر لم تعد مجرد مدينة محاصرة، بل رمز لمعركة السودانيين ضد تحويل الجوع إلى قدر محتوم.

 

📧: abdoalnasir@gmail.com

📞: +46 76 852 61 77

‫شاهد أيضًا‬

بالواضح فتح الرحمن النحاس لن يصلح العطار ماأفسده الدهر.. صائدو التمرد أم صائدة البمبان..؟!! ماعاد بيننا مكان لزمن الموات..!!

عشرات المواقف خلال عدة تظاهرات رأينا فيها من يلتقطون قنابل الدخان (البمبان) ويردونها علي أ…