وَرَقَةٌ بَحْثِيَّةٌ الخُرطُومُ بَعْدَ الحَرْبِ: (التَّحَدِّيَاتُ الأَمْنِيَّةُ وَالصِّحِّيَّةُ فِي مَرْحَلَةِ مَا بَعْدَ دَحْرِ الجَنْجَوِيدِ) (مَنْ لَمْ يَمُتْ بِالحَرْبِ مَاتَ بِغَيْرِهَا) بِقَلَمِ: عَبَّاس الخِدِيوِي

📌 المُقَدِّمَةُ:
شَهِدَ السُّودَانُ فِي الخَامِسَ عَشَرَ مِنْ أَبْرِيلَ سَنَةَ 2023م اندِلَاعَ حَرْبٍ دَامِيَةٍ بَيْنَ القُوَّاتِ المُسَلَّحَةِ السُّودَانِيَّةِ وَقُوَّاتِ الدَّعْمِ السَّرِيعِ (الجَنْجَوِيدِ). وَقَدْ شَكَّلَتْ تِلْكَ الحَرْبُ مُنْعَطَفًا تَارِيخِيًّا فِي مَسَارِ الدَّوْلَةِ وَالمُجْتَمَعِ، إِذْ وَصَلَتِ الاشْتِبَاكَاتُ إِلَى قَلْبِ الخُرْطُومِ، وَأَدَّتْ إِلَى انْهِيَارِ مُؤَسَّسَاتِ الدَّوْلَةِ وَتَعْطِيلِ الخِدْمَاتِ الأَسَاسِيَّةِ وَنُزُوحِ مِئَاتِ الآلافِ مِنَ السُّكَّانِ. وَمَعَ أَنَّ الجَيْشَ تَمَكَّنَ لَاحِقًا مِنْ دَحْرِ الجَنْجَوِيدِ وَإِخْرَاجِهِمْ مِنَ العَاصِمَةِ، إِلَّا أَنَّ الخُرْطُومَ لَمْ تَدْخُلْ بَعْدُ مَرْحَلَةَ الأَمَانِ الكَامِلِ، بَلْ وَجَدَتْ نَفْسَهَا أَمَامَ تَحَدِّيَاتٍ مُعَقَّدَةٍ تَتَجَاوَزُ الخَطَرَ العَسْكَرِيَّ المُبَاشِرَ.
وَيَتَمَثَّلُ أَبْرَزُ هَذِهِ التَّحَدِّيَاتِ فِي تَنَامِي خَطَرِ عِصَابَاتِ النَّقْرَزِ (النَّهْبِ المُسَلَّحِ) وَانْتِشَارِ الأَوْبِئَةِ وَالأَمْرَاضِ بِفِعْلِ انْهِيَارِ النِّظَامِ الصِّحِّيِّ. وَتَسْعَى هَذِهِ الوَرَقَةُ إِلَى دِرَاسَةِ الظَّاهِرَةِ فِي أَبْعَادِهَا الأَمْنِيَّةِ وَالاجْتِمَاعِيَّةِ وَالصِّحِّيَّةِ، عَبْرَ تَحْلِيلِ أَسْبَابِهَا وَنَتَائِجِهَا وَطُرُقِ مُوَاجَهَتِهَا.
—
📌 إِشْكَالِيَّةُ البَحْثِ:
تَنْطَلِقُ الوَرَقَةُ مِنَ التَّسَاؤُلِ الرَّئِيسِ الآتِي:
كَيْفَ يُمْكِنُ لِلْخُرْطُومِ أَنْ تُوَاجِهَ الأَخْطَارَ الأَمْنِيَّةَ وَالصِّحِّيَّةَ المُتَرَتِّبَةَ عَلَى الحَرْبِ، بَعْدَ دَحْرِ الجَنْجَوِيدِ، فِي ظِلِّ تَفَاقُمِ نَشَاطِ النَّقْرَزِ وَانْتِشَارِ الأَوْبِئَةِ؟
وَيَتَفَرَّعُ عَنْهُ عَدَدٌ مِنَ الأَسْئِلَةِ الفَرْعِيَّةِ:
1. مَا الظُّرُوفُ الَّتِي سَاعَدَتْ عَلَى تَحَوُّلِ النَّقْرَزِ مِنْ ظَاهِرَةٍ هَامِشِيَّةٍ إِلَى خَطَرٍ مَرْكَزِيٍّ بَعْدَ الحَرْبِ؟
2. كَيْفَ سَاهَمَتِ الحَرْبُ فِي انْهِيَارِ النِّظَامِ الصِّحِّيِّ وَتَفَشِّي الأَوْبِئَةِ؟
3. مَا العَلَاقَةُ التَّفَاعُلِيَّةُ بَيْنَ الخَطَرَيْنِ (الأَمْنِيِّ وَالصِّحِّيِّ)؟
4. مَا السُّبُلُ المُمْكِنَةُ لِمُعَالَجَةِ هَذِهِ التَّحَدِّيَاتِ ضِمْنَ إِطَارِ إِعَادَةِ بِنَاءِ الدَّوْلَةِ وَالمُجْتَمَعِ؟
—
📌 مَنْهَجِيَّةُ البَحْثِ:
تَعْتَمِدُ الوَرَقَةُ عَلَى المَنْهَجِ الوَصْفِيِّ التَّحْلِيلِيِّ، وَذَلِكَ مِنْ خِلَالِ:
🔹 تَحْلِيلِ الظَّوَاهِرِ الأَمْنِيَّةِ وَالصِّحِّيَّةِ فِي سِيَاقِهَا التَّارِيخِيِّ وَالاجْتِمَاعِيِّ.
🔹 المُقَارَنَةِ بَيْنَ مَرْحَلَةِ مَا قَبْلَ الحَرْبِ وَمَا بَعْدَهَا.
🔹 الاسْتِفَادَةِ مِنَ الأَدَبِيَّاتِ الأَكَادِيمِيَّةِ حَوْلَ الدَّوْلَةِ الهَشَّةِ وَالمُجْتَمَعَاتِ الخَارِجَةِ مِنَ الحَرْبِ.
🔹 دِرَاسَةِ التَّرَابُطِ بَيْنَ انْعِدَامِ الأَمْنِ وَانْتِشَارِ الأَمْرَاضِ فِي البِيئَاتِ المُـمَزَّقَةِ بِالنِّزَاعِ.
—
أَوَّلًا: الحَرْبُ وَبُرُوزُ التَّحَدِّيَاتِ الجَدِيدَةِ
1. الحَرْبُ كَحَدَثٍ مَفْصَلِيٍّ:
🔹 انْدِلَاعُ الحَرْبِ فِي 15 أَبْرِيلَ 2023 أَدَّى إِلَى انْهِيَارٍ سَرِيعٍ فِي مُؤَسَّسَاتِ الدَّوْلَةِ.
🔹 تَحَوَّلَتِ الخُرْطُومُ مِنْ مَدِينَةٍ مَرْكَزِيَّةٍ مُسْتَقِرَّةٍ نِسْبِيًّا إِلَى سَاحَةِ نِزَاعٍ مَفْتُوحٍ.
🔹 دَحْرُ الجَنْجَوِيدِ مَثَّلَ إِنْجَازًا عَسْكَرِيًّا، لَكِنَّهُ لَمْ يُعِدْ مُؤَسَّسَاتِ الدَّوْلَةِ إِلَى كَامِلِ فَاعِلِيَّتِهَا.
2. انْتِقَالُ الخَطَرِ:
🔹 بَعْدَ خُرُوجِ الجَنْجَوِيدِ، لَمْ تَعُدِ الخُرْطُومُ مُهَدَّدَةً بِمِيلِيشْيَا مُنَظَّمَةٍ، لَكِنَّهَا ظَلَّتْ عُرْضَةً لِأَشْكَالٍ أُخْرَى مِنَ العُنْفِ الاجْتِمَاعِيِّ وَالجَرَائِمِ اليَوْمِيَّةِ.
🔹 هَذَا التَّحَوُّلُ يُبْرِزُ قَاعِدَةً عَامَّةً فِي دِرَاسَاتِ مَا بَعْدَ النِّزَاعِ:
(سُقُوطُ العَدُوِّ الكَبِيرِ يَفْتَحُ المَجَالَ أَمَامَ أَعْدَاءٍ صِغَارٍ مُتَعَدِّدِينَ).
—
ثَانِيًا: ظَاهِرَةُ النَّقْرَزِ
1. النَّقْرَزُ قَبْلَ الحَرْبِ:
🔹 كَانُوا عِصَابَاتٍ صَغِيرَةً تَعْتَمِدُ عَلَى السَّطْوِ المُسَلَّحِ، خُصُوصًا فِي الأَحْيَاءِ الشَّعْبِيَّةِ وَالأَسْوَاقِ.
🔹 تَعَامَلَتِ الشُّرْطَةُ مَعَهُمْ بِاعْتِبَارِهِمْ “شَغَبًا جِنَائِيًّا” لَا تَهْدِيدًا وُجُودِيًّا.
2. النَّقْرَزُ بَعْدَ الحَرْبِ:
🔹 تَرَاجُعُ سُلْطَةِ الشُّرْطَةِ وَالقَانُونِ فَتَحَ المَجَالَ أَمَامَ تَوَسُّعِهِمْ.
🔹 وَفْرَةُ السِّلَاحِ بَعْدَ الحَرْبِ عَزَّزَتْ قُوَّتَهُمْ.
🔹 الأَزْمَةُ الاقْتِصَادِيَّةُ دَفَعَتْ كَثِيرًا مِنَ الشَّبَابِ لِلانْخِرَاطِ فِي هَذِهِ العِصَابَاتِ.
3. أَبْعَادُ الخَطَرِ:
📌 أَمْنِيًّا: تَعْجَزُ السُّلُطَاتُ عَنْ السَّيْطَرَةِ الكَامِلَةِ عَلَى الأَحْيَاءِ.
📌 اجْتِمَاعِيًّا: انْتِشَارُ الرُّعْبِ وَانْعِدَامُ الثِّقَةِ بَيْنَ المُوَاطِنِينَ.
📌 اقْتِصَادِيًّا: الأَسْوَاقُ وَالتِّجَارَةُ المَحَلِّيَّةُ مُهَدَّدَةٌ بِاسْتِمْرَارٍ.
—
ثَالِثًا: الأَوْبِئَةُ وَالأَمْرَاضُ
1. انْهِيَارُ النِّظَامِ الصِّحِّيِّ:
🔹 تَوَقُّفُ عَشَرَاتِ المُسْتَشْفَيَاتِ وَانْقِطَاعُ الأَدْوِيَةِ.
🔹 نُزُوحُ الكَوَادِرِ الطِّبِّيَّةِ أَوْ تَوَقُّفُهَا عَنِ العَمَلِ.
🔹 تَعَطُّلُ شَبَكَاتِ المِيَاهِ وَالصَّرْفِ الصِّحِّيِّ.
2. أَبْرَزُ الأَمْرَاضِ المُنْتَشِرَةِ:
الكُولِيرَا.
المَلَارِيَا.
الإِسْهَالَاتُ المَائِيَّةُ وَالتِّيفُويدُ.
سُوءُ التَّغْذِيَةِ وَمَا يُصَاحِبُهُ مِنْ ضَعْفِ المَنَاعَةِ.
3. الأَثَرُ الاجْتِمَاعِيُّ وَالاقْتِصَادِيُّ:
حَصْدُ الأَرْوَاحِ بِشَكْلٍ صَامِتٍ.
تَقْوِيضُ فُرَصِ الإِعْمَارِ وَالإِنْتَاجِ.
إِضْعَافُ الرُّوحِ المَعْنَوِيَّةِ وَزِيَادَةُ العُزْلَةِ المُجْتَمَعِيَّةِ.
—
📌 النَّتَائِجُ:
1. دَحْرُ الجَنْجَوِيدِ فِي الخُرْطُومِ مَثَّلَ نِهَايَةَ مَرْحَلَةِ الحَرْبِ المُبَاشِرَةِ، لَكِنَّهُ لَمْ يُؤَدِّ إِلَى الاسْتِقْرَارِ.
2. النَّقْرَزُ تَحَوَّلُوا مِنْ ظَاهِرَةٍ هَامِشِيَّةٍ إِلَى خَطَرٍ أَمْنِيٍّ مَرْكَزِيٍّ بِسَبَبِ الفَرَاغِ الأَمْنِيِّ وَالاقْتِصَادِيِّ.
3. الأَوْبِئَةُ تَفَشَّتْ نَتِيجَةَ انْهِيَارِ البِنْيَةِ التَّحْتِيَّةِ الصِّحِّيَّةِ وَالخِدْمِيَّةِ.
4. التَّفَاعُلُ بَيْنَ الخَطَرَيْنِ الأَمْنِيِّ وَالصِّحِّيِّ يُعَمِّقُ الأَزْمَةَ وَيَجْعَلُ الخُرْطُومَ عُرْضَةً لانْهِيَارٍ مُسْتَمِرٍّ.
—
📌 التَّوصياتُ
1. أمنيًّا:
🔹 إِعادَةُ بِنَاءِ جِهازِ الشُّرطَةِ وَتَزويدُهُ بِالمَوارِدِ البَشَرِيَّةِ وَالمادِّيَّةِ.
🔹 إِطلاقُ بَرامِجَ لِإِعادَةِ دَمجِ الشَّبابِ في سُوقِ العَمَلِ بَدَلَ اِنْخِراطِهِم في العِصابَاتِ.
2. صِحِّيًّا:
🔹 إِصلاحٌ عاجِلٌ لِشَبَكاتِ المِيَاهِ وَالصَّرْفِ الصِّحِّيِّ.
🔹 تَوفيرُ دَعمٍ دُوَلِيٍّ لِإِعادَةِ تَشغيلِ المُسْتَشْفَيَاتِ وَتَوفيرِ الأَدْوِيَةِ.
🔹 حَمَلاتُ تَوعِيَةٍ لِلْحَدِّ مِنِ اِنْتِشارِ الأَوْبِئَةِ.
3. مُجتَمَعِيًّا:
🔹 تَعْزيزُ دَوْرِ المُبادَراتِ الشَّعْبِيَّةِ في المُراقَبَةِ وَالإِبْلاغِ عَنْ عِصاباتِ النَّقْرَزِ.
🔹 دَعْمُ المُجتَمَعِ المَدَنِيِّ في بَرامِجِ الصِّحَّةِ وَالوِقايةِ.
4. اِستراتيجيًّا:
🔹 تَبَنِّي خُطَّةٍ شامِلَةٍ لِإِعادَةِ بِنَاءِ الخُرطومِ لا تَقتَصِرُ عَلَى الجانِبِ العَسكَرِيِّ، بَل تَشْمَلُ إِعادَةَ الإِعمارِ الاِجتِماعيِّ وَالصِّحِّيِّ.
—
📌 الخاتِمَةُ:
تُؤَكِّدُ التَّجرِبَةُ السُّودانِيَّةُ أَنَّ اِنْتِهاءَ الحَربِ لا يَعْنِي بالضَّرورَةِ بِدايَةَ السَّلامِ. فَالخُرطومُ، بَعدَ خَامِسَ عَشَرَ مِن أَبْريلَ 2023، دَخَلَت مَرحَلَةً جَديدَةً مُعَقَّدَةً تَتَسِمُ بِغِيابِ المِيلِيشِيّاتِ الكُبْرَى، لَكِنَّ بُروزَ أَخْطارٍ أَمنِيَّةٍ وَصِحِّيَّةٍ مُستَمِرَّةٍ.
عِصاباتُ النَّقْرَزِ تُـمَثِّلُ الخَطَرَ الأَمنِيَّ المُباشِرَ، فيـما تُشَكِّلُ الأَوبِئَةُ الخَطَرَ الصَّامِتَ طَويلَ المَدَى. وَمُعالَجَةُ هذِهِ التَّحَدّياتِ تَتَطَلَّبُ رُؤيَةً شامِلَةً تُعِيدُ لِلدَّوْلَةِ حُضورَها الأَمنِيَّ وَالصِّحِّيَّ، وَتَستَثمِرُ في المُجتَمَعِ لِبِنَاءِ مَناعَةٍ ضِدَّ الاِنْهِيارِ المُتَكَرِّرِ.
فَقَط عَبْرَ الجَمْعِ بَينَ الأَمْنِ، وَالصِّحَّةِ، وَالتَّنْمِيَةِ المُجتَمَعِيَّةِ، يُمكِنُ لِلخُرطومَ أَنْ تَنْتَقِلَ مِن مَدينَةٍ جَريحَةٍ إِلى عاصِمَةٍ تَستَعِيدُ دَوْرَها التَّاريخِيَّ في قِيادَةِ السُّودانِ نَحوَ الاِستِقرارِ.
—
📌 مُلاحَظَةٌ:
هذِهِ الوَرَقَةُ تُعَدُّ رِسالَةً أَو صَرْخَةً إِلى كُلِّ مَن يَهُمُّهُ الأَمرُ عَلَى مُستَوَى الدَّوْلَةِ الرَّسْمِيَّةِ، أَوِ المُنَظَّماتِ الطُّوْعِيَّةِ، أَوِ الزَّعاماتِ المُجتَمَعِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ، أَوِ القِطاعاتِ الفِئَوِيَّةِ وَالاِتِّحادَاتِ وَالنِّقابَاتِ.
—
الهندي عزالدين التحية لجيشنا العظيم ومنظومة الصناعات الدفاعية
ودّعنا فجر أمس ، من محطة السد العالي في “أسوان” الجميلة الرائعة ، ركاب القطار …