رسالة لمن يهمهم الأمر بِقَلَمِ: عَبَّاس الخِدِيوِي

المثل الشعبي : (البومة البعجبو الخراب يُجسّد المثل السوداني «البومة البعجبو الخراب» خلاصة الوعي الشعبي بخطر أولئك الذين لا يحيون إلّا وسط الأزمات. فالبومة في المخيال الشعبي لا تعيش في البيوت العامرة، بل تبحث عن الخرائب الموحشة لتتخذها مأوى. وهذا تمامًا ما يفعله بعض البشر: لا يزدهرون إلا في الخراب، ولا يستمدون وجودهم إلا من غياب النظام.
– السياسي البومة:
السياسي الذي ينطبق عليه المثل هو ذاك الذي يجعل الفتنة وسيلته للوجود. لا يعرف لغة البناء ولا يسعى للإصلاح، بل يعيش على تضخيم الانقسامات القبلية أو الطائفية أو الحزبية. خطابه لا يحمل مشروعًا إيجابيًا، بل يقتات على التحريض والتخويف، لأن الناس المذعورين أداة سهلة لتمديد سلطته. إنه لا يطيق الاستقرار، لأن الاستقرار يُعرّي خواء مشروعه ويُسقط عنه قناع الزعامة.
– الاقتصادي البومة:
أما في الاقتصاد، فـ «البومة» هو التاجر الذي لا يربح إلا في غياب الرقابة، ولا يزدهر إلا إذا تعطّلت القوانين وانتشر الفساد. هو من يتاجر في الأزمات، يحتكر السلع، ويستغل حاجة الناس في أوقات الحرب أو المجاعة أو الندرة. فإذا عاد الاقتصاد إلى طبيعته، خسر مكانته. لذلك نراه يدعو ضمنًا لاستمرار الفوضى، لأنها الضمان الوحيد لازدهار تجارته السوداء.
– الإعلامي البومة:
وفي ميدان الإعلام، يتجلّى المثل في ذلك الصحفي أو المذيع الذي يعيش على الفضائح والشائعات. لا يطمئن قلبه للخبر الإيجابي، لأنه لا يُثير الجمهور، بل يبحث عن كل ما يزيد نار الخوف والفتنة اشتعالًا. هو بومة حقيقية، تعيش على الخراب المعنوي، وتنشر السواد في النفوس، وتحوّل المنبر الإعلامي إلى مصنعٍ للفوضى بدل أن يكون منبرًا للتنوير.
– المثقف البومة:
هو المثقف الذي يُفترض أن يكون صانع وعي، لكنه لا يجد حضوره إلا في مهاجمة الآخرين، أو في تضخيم سلبيات الواقع دون تقديم أي رؤية بنّاءة.
لا يكتب إلا إذا اشتعلت أزمة فكرية أو صراع أيديولوجي.
يعيش على جلد المجتمع والتقليل من قيمة أي إنجاز.
إذا عمّ الإصلاح والصمت، غاب صوته لأنه لا يجد نفسه إلا في الفوضى الفكرية.
– رجل الدين البومة:
وهو من يستخدم الدين أداةً لتأجيج الفتن لا لبناء القلوب.
يقتات على تكفير الآخرين أو تخويفهم.
يزدهر خطابه كلما زادت النزاعات، لأنه يجد في الفوضى بيئة خصبة لبسط نفوذه.
بدل أن يكون صوت إصلاح ورحمة، يتحول إلى صوت تشاؤم وتخويف، فيكون كالبومة التي لا تصيح إلا في الخراب.
– الموظف البومة:
في المؤسسات والدواوين، نجد موظفًا لا يعيش إلا إذا تعطّل العمل:
يتلذذ بتعقيد الإجراءات، ويفرح بتأخر المعاملات.
يستمد سلطته من الفوضى الإدارية والبيروقراطية، فإذا وُضعت نظم صارمة فقد مكانته.
هو بومة الخراب الإداري، يستمتع بركام الفوضى الذي يشبه الخرائب التي تعيش فيها الطيور الليلية.
– الجار أو الفرد العادي البومة:
حتى على مستوى الحياة اليومية:
هناك من لا يرتاح إلا إذا أشعل نار الخلاف بين جيرانه أو أقاربه.
يتغذى على النميمة والإشاعات، ويسعد حينما تنهار العلاقات من حوله.
وجوده مرهون بأن تكون البيئة الاجتماعية مضطربة، لأنه حينها يجد لنفسه دورًا.
خاتمة:
المثل الشعبي السوداني «البومة البعجبو الخراب» ليس مجرد حكمة ساخرة، بل هو عدسة كاشفة تُعرّي نمطًا بشريًا خطيرًا: أشخاص لا يعيشون إلا حيث يموت النظام، ولا يزدهرون إلا حيث ينهار العمران. سواء كانوا سياسيين أو اقتصاديين أو إعلاميين أو مثقفين أو رجال دين أو موظفين فهم يشتركون في خيط واحد: مصالحهم مرتبطة بالفتن، وأرباحهم مرهونة بالأزمات، ووجودهم مرهون باستمرار الخراب.
ومن هنا فإن وعي المجتمع بهذا المثل لا يقتصر على التندر، بل هو تحذير عملي: أن ننتبه إلى هؤلاء «البوم» الذين لا يفرحون إلا في الخراب، وأن نُحاصر أثرهم بالبناء والوعي والاستقرار.
الهندي عزالدين التحية لجيشنا العظيم ومنظومة الصناعات الدفاعية
ودّعنا فجر أمس ، من محطة السد العالي في “أسوان” الجميلة الرائعة ، ركاب القطار …