أصل_القضية من سلسلة الجسر والمورد السودان… بين وهم المنقذ وضرورة إنقاذ الذات محمد أحمد أبوبكر – باحث بمركز الخبراء للدراسات الإنمائية

“الأمم التي تنقذ نفسها، تُفرض على العالم احترامًا، أما الأمم التي تنتظر المنقذ… فتظل رهينة لإرادة غيرها.”
منذ ديسمبر ٢٠١٨م خرج السودانيون يهتفون للحرية والسلام والعدالة، واعتقدوا أن لحظة الخلاص قد حانت. غير أن سقوط النظام لم يُسقط الأزمات المركبة المتجذرة في جسد الدولة. فالمشهد تبدّل سريعًا: شباب الثورة موزَّعون بين الأمل والخذلان، ملايين النازحين داخل وطنهم، اقتصاد منهك يترنح، وحرب أبريل ٢٠٢٣م التي أعادت البلاد خطوات بعيدة إلى الخلف.
إنها ليست مجرد أزمة معاشية أو صراع سلطة، بل هي سؤال وجودي: هل نحن قادرون على إنقاذ أنفسنا، أم سنظل في انتظار المنقذ الخارجي أو الداخلي؟
تشخيص الحالة
في قلب الأزمة يكمن سؤال أساسي: هل ما يحدث في السودان هو نتيجة ضعف الوطنية لدى العامة، أم نتيجة قلة الخبرة والدراية لدى المسؤولين؟
الواقع يقول إن الأمر ليس اختيارًا أحاديًا، بل مزيج مركب:
●هناك ضعف في الوعي الوطني لدى قطاعات من المجتمع، يجعلهم يسقطون في فخ الخطاب القصير والمصالح اللحظية.
●وهناك قصور حاد في الخبرة والاستراتيجية لدى المسؤولين، يجعلهم عاجزين عن صياغة رؤية واضحة لإدارة موارد السودان واستثمارها بما يخدم الشعب والأمن القومي.
هذا التشخيص يقودنا إلى مفهوم استراتيجي جديد ضمن رؤية الجسر والمورد، وهو ما أسميه “متلازمة المنقذ الممزق”.
متلازمة المنقذ الممزق… تشخيص السودان
هي حالة مجتمعية وسياسية تتجسد حين يُصبح السعي لإنقاذ الذات أو الوطن مرتبطًا بخطاب مزيج من الارتباط بالآخرين (الدوليين والإقليميين) وعدم القدرة على إدارة موارد الوطن داخليًا بكفاءة، مما يؤدي إلى:
١. اعتماد مفرط على الخارج بدل بناء القدرات الداخلية.
٢. تراجع السيادة الاستراتيجية وتحولها إلى ساحة صراع دولي.
٣. إضعاف الوحدة الوطنية بفعل الصراع الداخلي على الموارد والمصالح.
في حالة السودان، تجسدت هذه المتلازمة منذ ديسمبر ٢٠١٨م، حيث تداخل ضعف الوطنية لدى بعض الفئات، وقلة الخبرة لدى المسؤولين، مع خلل إدارة التنافس الدولي على الموارد – من ذهبٍ يموّل الحروب في دارفور وجبال النوبة، إلى صراع النفوذ على موانئ البحر الأحمر، إلى تعطيل مشاريع الاستثمار الزراعي التي يمكن أن تُطعم المنطقة – مما حوّل موارد البلاد من أمل للتقدم إلى وقود للصراع. ومع صمت العالم العربي والدولي، ظل السودان أسيرًا لأزماته الذاتية والمصنوعة داخليًا.
أعراض متلازمة المنقذ الممزق
هذه المتلازمة تتجسّد في مجموعة من المؤشرات الواضحة التي تعكس واقع السودان:
●اعتماد سياسي دائم على مواقف ودعم دولي وإقليمي بدل استثمار الذات والموارد.
●صراعات داخلية مستمرة حول الموارد الاستراتيجية بدل إدارتها وفق رؤية وطنية.
●إضعاف القدرات المؤسسية لصالح التوظيف السياسي الفوري.
●غياب استراتيجية وطنية واضحة للتعامل مع الأزمات الاقتصادية والسياسية.
●تراجع دور السودان الريادي على المستوى الإقليمي والدولي وتحول موقفه إلى الدفاع عن ذاته بدل قيادة التغيير.
●صمت أو تباين مواقف القوى الإقليمية والدولية تجاه قضايا السودان، ما يزيد الإحساس بالعزلة.
السودان في مرآة العالم
العالم لا يرى الشعوب بما تقول عن نفسها، بل بما تُظهره في الداخل. وانقسامنا الداخلي جعل السودان ساحة مفتوحة للتجاذبات: خليجية، مصرية، إثيوبية، غربية، وروسية.
فبدل أن نكون جسرًا للتكامل، أصبحنا مسرحًا للصراع. وتراجعت صورة السودان في المجتمع الدولي من “أمل ديمقراطي” إلى “مأساة إنسانية”. وحتى المؤسسات المالية الدولية أغلقت أبوابها، لأن الداخل لم يقدم شريكًا جديرًا بالثقة.
والسؤال المؤلم هنا: أين السودان – بما يملكه من أراضٍ خصبة ونيل لا ينضب – من كونه سلة غذاء العالم؟ كيف تحوّل بلد يملك الموارد التي تُطعم القارة والعالم، إلى بلد يستجدي الغذاء من المساعدات؟ هذه المفارقة تختصر مأساة داخلية تُهدر الموارد وتبدّد الفرص، وتُضعف صورة السودان في أعين المجتمع الدولي.
معنى “الجسر والمورد” انطلاقا من واقعنا
إن رؤية الجسر والمورد ليست شعارًا بل مسارًا عمليًا:
●الجسر يعني أن يعود السودان معبرًا للتكامل بين أفريقيا والعالم العربي، بين البحر الأحمر وعمق القارة.
●المورد يعني أن تُدار ثرواتنا بالشفافية والمؤسسية، فتتحول من لعنة تستدعي الدماء إلى فرصة تستقطب الاستثمار والبناء.
لكن هذا لن يتحقق إلا إذا بدأنا بإنقاذ أنفسنا أولًا. فالسياسة الخارجية ليست بيانات تُكتب في عواصم العالم، بل مرآة صادقة تعكس متانة الداخل أو هشاشته.
السودان لا يحتاج إلى منقذ خارجي، بل يحتاج أن يجد نفسه. فإذا وقفنا على أقدامنا وبنينا مؤسساتنا من الداخل، وأدرنا مواردنا كركيزة قوة لا كوقود صراع، سيحترمنا العالم ويسعى لعبور جسورنا. أما إذا ظللنا نلهث وراء “المنقذ”، فلن نكون سوى تابع في لعبة دولية أكبر منّا.
أصل القضية: أن نبدأ بإنقاذ ذواتنا… كي نعيد للسودان مكانته، ونحوّل أرضه إلى سلة غذاء حقيقية للعالم، ونجعل سياسته الخارجية صوت قوةٍ لا صدى ضعف.
الهندي عزالدين التحية لجيشنا العظيم ومنظومة الصناعات الدفاعية
ودّعنا فجر أمس ، من محطة السد العالي في “أسوان” الجميلة الرائعة ، ركاب القطار …