‫الرئيسية‬ مقالات شئ للوطن م.صلاح غريبة – مصر اليوم الدولي للترجمة: مدّ الجسور من شواطئ النيل إلى العالمية
مقالات - ‫‫‫‏‫يومين مضت‬

شئ للوطن م.صلاح غريبة – مصر اليوم الدولي للترجمة: مدّ الجسور من شواطئ النيل إلى العالمية

شئ للوطن  م.صلاح غريبة – مصر  اليوم الدولي للترجمة: مدّ الجسور من شواطئ النيل إلى العالمية

Ghariba2013@gmail.com

يُطل علينا اليوم الدولي للترجمة، الموافق 30 سبتمبر من كل عام، ليذكّرنا بالدور المحوري الذي يضطلع به المترجمون كصنّاع الجسور الثقافية والمعرفية بين الشعوب. هذا اليوم، الذي أقرّته الأمم المتحدة إقراراً بأهمية مهنة الترجمة في تعزيز السلام والتفاهم والتنمية، ليس مجرد احتفال بالكلمة المنقولة، بل هو دعوة لتأمل مكانة اللغات والثقافات في عالمنا المتسارع. وإذا ما أردنا لهذا الاحتفال أن يكون ذا معنى أعمق في سياقها العربي،

 

وبالتحديد في المشهد السوداني، يصبح لزاماً علينا أن نخصص مساحة واسعة للنظر في حال التراث الأدبي والموروثات الثقافية السودانية، وضرورة العمل على ترجمتها ونقلها إلى اللغات الأخرى.

 

السودان، بتعدده الثقافي واللغوي الفريد، يملك كنزاً ضخماً من الأدب والموروثات الشعبية والفكرية التي لم تحظ بالانتشار العالمي الذي تستحقه. إن ترجمة هذا الإنتاج ليست مجرد عمل أكاديمي أو ثقافي ثانوي، بل هي ضرورة وجودية واستراتيجية للتعريف بالهوية السودانية في خضم المشهد العالمي.

 

إن الانتماء الأدبي السوداني، بكل ما يحمله من خصوصية وجماليات متفردة نابعة من تقاطع الحضارات على ضفاف النيل، يمثل روح الأمة. أعمال الرواد والمعاصرين، قصصهم، أشعارهم، وحتى الحِكم والأمثال الشعبية، هي بوابات لفهم تعقيدات المجتمع وتاريخه ومرونته. فكيف يمكن للعالم أن يفهم عمق التجربة السودانية دون أن يقرأ ليلاً من ليالي الطيب صالح، أو يفهم تداخل الأديان والثقافات في نصوص روائية حديثة؟

إن إهمال ترجمة هذا الموروث هو إبقاء له في دائرة مغلقة، وحرمان العالم من ثراء فكري وجمالي، وحرمان السودان نفسه من أداة قوة ناعمة لا تقدر بثمن. فكل نص مترجم هو سفير يحمل معه صورة أكثر صدقاً وعمقاً عن البلاد وشعبها، متجاوزاً بذلك الصور النمطية التي غالباً ما تُقدم عبر وسائل الإعلام. إنها عملية صون للهوية من الاندثار في ظل العولمة، ومدّ لجذور الانتماء في تربة الفهم العالمي.

في الوقت الذي ندعو فيه لترجمة كنوزنا الأدبية، يواجه المترجمون حول العالم تحدياً ضخماً يتمثل في تسارع أدوار الذكاء الاصطناعي (AI). لقد غيّرت أدوات الترجمة الآلية، لا سيما القائمة على نماذج اللغات الكبيرة (LLMs)، المشهد بشكل جذري، مقدمةً سرعة وكفاءة غير مسبوقة في التعامل مع النصوص التقنية والتجارية.

هذا التطور يثير قلقاً مشروعاً حول مستقبل مهنة المترجم البشري. ولكن، بدلاً من الركون إلى المقاومة السلبية، يجب أن ننظر إلى هذه التقنيات كأدوات معززة لا كبدائل مطلقة، خاصة في مجال الترجمة الأدبية.

إن الترجمة الأدبية والشعرية، وترجمة الموروث الثقافي تحديداً، هي مجال يُظهر بوضوح حدود الذكاء الاصطناعي الحالي. فالآلة تترجم الكلمات والجمل، لكنها لا تستطيع نقل العمق الثقافي، مثل الإحالات الدقيقة إلى العادات، التاريخ، والفروقات الاجتماعية التي يدركها المترجم البشري المتخصص، ولا يمكن للآلة أن تستوعب العاطفة، والسخرية، والإيقاع، والنغمة والروح، أو الجماليات الفنية التي يضيفها الكاتب، وهي العناصر التي تتطلب حسّاً إنسانياً وأدبياً عالياً لإعادة خلقها في اللغة الهدف، كما أن الموروثات التراثية السودانية مليئة بمفردات خاصة وحِكم شعبية تتطلب شرحاً وتأويلاً، لا مجرد نقل حرفي.

لذا، فإن مستقبل المترجمين الأدبيين يكمن في التكيّف والإرتقاء. على المترجم أن يتحول من ناقل للكلمات إلى خبير لغوي وثقافي يعمل بالاستعانة بالذكاء الاصطناعي في المراحل الأولية والسريعة (مثل المسودة أو البحث عن المصطلحات)، بينما يُركز جهده على التحرير اللاحق (Post-Editing) وإضافة الروح والنكهة الإنسانية للنص.

إن المترجم البشري يظل هو الضامن لجودة الترجمة الأدبية، وهو الحارس الأمين للسياق الثقافي. ففي النهاية، لا يمكن لأي خوارزمية أن تحل محل قلب أديب يفهم معاني الحنين في قصيدة سودانية، أو خلفية معاناة كامنة في مثل شعبي.

الاحتفال باليوم الدولي للترجمة يجب أن يتحول إلى محفز لوضع استراتيجية وطنية لترجمة الأدب والتراث السوداني. هذه الاستراتيجية يجب أن تشمل دعم المترجمين المتخصصين، بتوفير منح ودورات تدريبية متقدمة في الترجمة الأدبية والثقافية، مع التركيز على المزاوجة بين المهارات اللغوية العميقة والتعامل الاحترافي مع أدوات الذكاء الاصطناعي، وإنشاء قاعدة بيانات تراثية لتجميع وتوثيق المصطلحات التراثية والمفاهيم الثقافية السودانية لتمكين المترجمين من التعامل معها بدقة وشمولية، مع عقد شراكات دولية والتعاون مع دور النشر والمؤسسات الثقافية العالمية لترجمة ونشر الأعمال السودانية المتميزة على نطاق واسع.

في هذا اليوم، نوجه تحية إجلال وتقدير لكل مترجم سوداني، ونرفع صوتنا عالياً: إن قصة السودان تستحق أن تُروى بجميع لغات العالم، والمترجمون هم أبطال هذه الرواية.

‫شاهد أيضًا‬

الهندي عزالدين  التحية لجيشنا العظيم ومنظومة الصناعات الدفاعية

ودّعنا فجر أمس ، من محطة السد العالي في “أسوان” الجميلة الرائعة ، ركاب القطار …