‫الرئيسية‬ اخبار السودان للمرء منا أكثر من ميلاد. عادل عسوم
اخبار السودان - ‫‫‫‏‫6 ساعات مضت‬

للمرء منا أكثر من ميلاد. عادل عسوم

للمرء منا أكثر من ميلاد.  عادل عسوم

كل منا يا أحباب -وإن وافق يوم ميلاده يوما بعينه- تمر عليه أيام ميلاد عديدة خلال سني حياته، فكأننا نولد مجددا كلما نابنا قَدَرٌ من أقدارِ الله يتسبب في تغيير مسار حياتنا!…

 

ولعل أول يوم في المدرسة/KG ل يوم ميلاد جديد، ويوم التخرج من الجامعة يوم ميلاد جديد، ويوم استلام الوظيفة واول (ماهية) ل يوم ميلاد جديد، ويوم الزواج ل يوم ميلاد جديد، ويوم قدوم أول مولود يهبنا الإحساس بالإبوة/الأمومة ل يوم ميلاد، وهناك أيام ميلاد أخر كثر وصلا وتماهيا مع زخم المشاعر التي تكتنف كل حدث ذي شأن…

 

بالنسبة لي فقد مررت بأعياد ميلاد عديدة تسببت في اثراء وتغيير مسار حياتي، وكلها أقدار لله…

يوم الثاني من أكتوبر هو يوم ميلادي الذي رأيت فيه نور الشمس، والمولد كان في الشرق حيث تشرق الشمس، كسلا التي تعد إحدى حسان هذا الوطن الجميل تأريخا، وأمكنة، وأُناسِيٍّ كثيرا، فاجتمت لي بذلك (شينات ثلاث):

شين الشمال الجغرافي حيث الجذور،

وشين لها وصل بأهلي الأحباب الذين اثقلت الحنية أعطاف لهجتهم فتجملت ب(إمالة) محببة،

ثم شين الشرق الذي كان فيه المولد…

في إحدى صباحات الميرغنية الوديعة نادى المناد بقدوم مولود لآل عسوم، وانطلقت الصرخة الأولى بعد أن امتلأت رئتا الوليد بنسيم كسلا الريان بزيفة المطر، فحبى وترعرع وتشكل وجدانه بخضرة المدينة وعنفوان القاش، كسلا التي حباها الله بثنائيات مدهشة، فأشجارها تزهر مرتين في العام، وعلى ذكر الأشجار فقد نشأت محبا لأشجار الدوم، إذ حبوت وتاتيت في ظل دومات كن في قعر بيتنا بميرغنية كسلا حيث ولدت، وكان لثمر تلك الدومة طعم حلو لاتنافسه في حلاوته إلا دومة تحرس نبع توتيل يسميها أهلنا في كسلا دومة القوس، وهي طويلة جدا ومنحنية وعلى شكل قوس ينقصه وشاج، لو وصل به الرأس منها بقعرها لاضحت قوسا ترمى السهم منه فيسقط بعييييدا في مدينة أسمرا، أو لعله يتجاوزها فيسقط في مياه بحر القلزم…

وأهل كسلا يحملون في دواخلهم (هينين) من مودة ومن منى كما غنى الجابري، ودون ذلك محبة (جينية) للآخرين، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، تجدهم يجمعون المفرد فيقولون ( 2 بيت، واتنين سرير)، ووصفهم للأشياء فيه سمو وارتقاء، (فلان تلقاه فوق البيت، وليس في البيت)…

ما أروع الهدندوة يا أحباب وهم (يلوون) الكلام و(يلينون) في رقصهم و(يلاوون) السيف، فتوقن بأنهم أحفادٌ للبطل عثمان دقنة طيب الله ثراه، وفي غرب القاش تجد أهلنا الهوسا قومٌ فيهم جِدٌّ ونشاط، وهم كذلك في رقصهم، وفي رحابهم تجد الرِّقَّةَ والطيبة والترحاب، نزلوا يوما ضيوفا على أهل المنطقة من الحلنقة والهدندوة والبني عامر فأضحوا أهل ديار، والحلنقة والهدندوة أهل كرم، والبني عامر كذلك، ويرجحون بتديّنٍ لهم جِبِلَّة، وهناك الرشايدة عرب أقحاح فيهم أصالة وجمال، كل هذه القبائل اجتمعوا على جبنة لهم لاتخمد دونها نار، أما السواقي شماليها وجنوبيها فقد أشرقت بها شمس وجد راحلنا توفيق صالح جبريل فكانت ومافتئت جنة للعشاق…

يوم ميلادي الثاني كان يوم الختان (الطهورة)، والناس سنيها اعتادوا ختن صبيانهم في السادسة من اعمارهم قبيل الدخول إلى المدرسة الابتدائية، وعندما سعيت إلى ختن ابنائي في اليوم السابع من ميلادهم وهو يوم سماية كل منهم تفاجأت بقول والدي (المساعد الطبي) رحمه الله بأن الختان (للذكور طبعا) يستحسن ان يكون بعد أن يكبر الطفل قليلا، واذا بي اجد تأكيدا لقوله -بعد ذلك بسنوات- بأن الطفل كلما كبر يعين ذلك على سلامة جراحة الختان…

ود الطهور منا -حينها- كان (عريسا) يحظى بغالب الطقوس، من حنة، وكحل، وربط للحريرة وهلال الذهب على المحيا، ويخرج إلى الناس بعراقيه الساكوبيس المربعات الأبيض، فاقع لونه يسر الناظرين، ولاعيب فيه إلا عدم لبس السروال، لكنني يومها اقسمت بأن لا أخرج إلى الناس امفكو، فاستجابت والدتي أطال الله عمرها وألبستني مايسترني إلى حين، وأعطوني سوط عنج بديع فلم يداخلني شك بأنني فارس من فرسان القبيلة، ثم أفرد لي عنقريب جديد أرجله مخروطة وملونة باللون الاحمر وتحفه دوائر من اللون الأسود، وعلى العنقربب الجميل برش من سعف ملون وبديع، والطهورة يومها كانت (طهورة القصبة)، يقال لك عاين للطيارة فووووق، وما ان ترفع رأسك إذا بسكين الطهار تفعل بك الأفاعيل، وبحمد قدر لي بأن يكون الطهار والدي رحمه الله فحظيت بطهورة (افرنجية) بمشرط عوضا عن السكين وبلا قصبة، ولكن تألمي كان من حقنة البنج الموضعي…

يومها امتلأت جيوب العراقي الساكوبيس بعدد مقدر من الطرادات ذات اللون الوردي/الأحمر، وكثير من الجنيهات، مما جعلني فاحش الثراء، وإذا بالتعامل مع من أهل البيت يتغير، فلا أوامر من أخوتي الكبار لشهر من الزمان، ازيحت عن كاهلي مراسيل الدكان فنعمت بالكثير من الدلال ولكن إلى حين.

ميلادي الثالث كان يوم دخولي الى المدرسة، وقد دخلتها كمستمع لكوني لم أبلغ السادسة حينها، وقد كان والدي صديقا لمدير المدرسة الابتدائية، وإذا بنتيجتي في نهاية الفصل الدراسي الأول مشترك، وكان ذلك دافعا للاستمرار في الدراسة.

يوم عيد ميلادي التالي أحسبه كان يوم انتقلتُ إلى الصف الرابع الإبتدائي، يومها تم السماح لنا بالكتابة بالحبرِ السَّائل عوضاً عن قلمِ الرّصاص، ولا أتذكر هل أقلام الحبر الجاف حينها كانت ممنوعة أم أنها لم تكن موجودة؟!، وما كان الانتقال إلى الكتابة بالحبر السائل حدثا عاديا، لقد كان حقا يوما مشهودا في حياتي، فما أجمل ملمس انبوبة/بلونة قلم الحبر السائل حين تشرع في ملئها بالحبر من المحبرة المثبتة في فتحة دائرية بركن الكنبة/الدرج، واذكر ان والدي رحمه الله ابتاع لي قنينة/فتيل خبر (باركر) ذكي الرائحة، فتوقفت عم ملئ قلمي من محبرة الفصل في المدرسة، وان نسيت فلن أنس كيف كنا نرش بعض نقاط الحِبْرٍ -عمدا- على قمصاننا، ثم نثبت قلم الحبر في الجيب جاعلينه باديا للعيان، وذاك يجعل اولاد أولى وتانية واولاد تالتة ينظرون لنا باعجاب لايخلو من نظرة حسد…

عيد ميلادي التالي كان يوم قبلت في الجامعة، لقد كتب لي الله لي في عوالم جامعة أم القرى وعرصاتها حياة جديدة ووضيئة، وقُدِّرَ لي بأن امضي في رحابها سنوات من عمري كانت بمثابة الربيع من الزمان، زاملت فيها زملاء أخيار لا أزكيهم على الله وهو حسيبهم، وكان لمكة المكرمة قدرها من قدسية التحاكم إلى نصوص الاقامة في الحرم دون الحِل، وقد دفع ذلك الصحابي الجليل عبدالله بن عباس رضي الله عنه مبارحتها -تورعا- ليقيم خارجها في منطقة الطائف…

عيد ميلادي التالي كان يوم قدوم طفلتي الأولى وأنا الطالب حينها في الجامعة، أطلّت عليّ ابنتي الكبرى وهي الطبيبة حاليا وما أسعدني بها من اطلالة، يومها أوصلت زوجي التي احست بآلام المخاض إلى المستشفى، كان اليوم يوم خميس وشهر شعبان في خاتمته ورمضان على الأبواب، انتظرت في باحة استقبال المستشفى أدعو الله بأن يسلم زوجي ومولودي الأول والعينان مني مصوبتان إلى المدخل انتظارا لمقدم من يأتيني بالخبر السعيد، وكم لخبر المولود الأول يا أحباب من وقع جميل في النفس، جلست على أحد المقاعد ومشاعري تقف على قدمين، وما أن أوشك منتصف الليل بالقدوم إلا واذيع بأن يوم غد الجمعة سيكون أول أيام رمضان، كم سعدت بالخبر لكون مولودتي الأولى ستنالها بركتان، بركة مقدم أول يوم من رمضان، وبركة ليل الخميس المفضي الى صباح يوم الجمعة، وأخبرتني احدى الممرضات بأن الولادة ستتأخر لساعات، وأنهم شرعوا في عمل طلق صناعي، ونصحتني ومن معي بأن نذهب إلى دورنا وستتواصل معي بالهاتف، وألح عليّ من كان معي بالانصراف فصحبتهم مكرها إلى شقتي، وبالطبع

كنت أعلم أن الجنين انثى من خلال المتابعة السابقة مع الطبيبة، والحق اقول بأنني كنت أرغب بأن يكون مولودي الأول بنتا لسببين، الأول لكوني الأوسط ضمن سبعة أشقاء ذكور لم نحظ سوى بأخت واحدة، والثاني إنني كنت أسير مقولةٍ سمعتها من جدي رحمه الله بأن (الببكر بالبت زولا مبروك).

نظرت إلى ساعة معصمي فإذا بها لم تبارح الواحدة صباحا، وانتبهت إلى عدم شرائي للوازم رمضان، فنهضت أنوي الخروج لشراء مايلزم، إلا أن إلتفاتة مني إلى الهاتف القابع أمامي على المنضدة أعادتني إلى مقعدي، فكيف لي أن ابارحه وهو المصدر الأوحد للخبر السعيد؟!، وما كانت الهواتف النقالة حينها منتشرة، فارتأيت بأن أجلس قليلا انتظارا للخبر السعيد، حررت أزرار قميصي واسندت رأسي واتكأت بظهري مميلا المقعد إلى الحائط، والعينان مني لاتبارحان الهاتف انتظارا لرنينه،

واذا بارهاق اليوم يسلمني إلى غفوة، فانبري إلى خاطري سؤال:

لماذا ياترى إختار النصارى الجرس ليكون نداءً لصلاتهم بينما اليهود البوق ونحن الأذان؟!

شغلني السؤال فجعلت أدير فكري باحثا عن إجابة، وشرعت أستعرض قصة أنبياء الله موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام وعلى نبينا اتم الصلاة والسلام، فإذا بي أركن إلى اجابة:

البشرية في عهد موسى وعيسى عليهما السلام كانت في ابتدارت مدنيتها، لذلك كانت جل -إن لم تكن كل- معجزاتهم حسية، بينما كانت معجزات نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه -جلها- معنوية، لذلك فإن الأذان بالصوت البشري أكثر اتساقا مع سَمتِ الإسلام عن اليهودية والمسيحية…

واتصل مَدُّ الفكر بي، فإذا بي أرى أبا الأنبياء إبراهيم عليه السلام ينادي في الناس بالحج، قيل بأنه سأل الله كيف للناس أن يسمعوا ندائي؟! فأوحي إليه الله بأن يصعد على تلة من تلال مكة وينادي وسيوصل الله نداءه إلى كل الناس في أرجاء الأرض وإلى أن يرث الارض ومن عليها، ففعل عليه السلام، وها نحن اليوم يا أحباب يمكننا إرسال رسالة او مقطع صوتي من خلال الواتساب ليقرأها الملايين في ذات الثانية، قلت لنفسي: لعل التواصل يصبح يوما بيولوجيا من خلال ال

D N A و ال R N A

لتصل رسائلنا للناس تماما كما وصلت رسالة أبينا إبراهيم عليه السلام، حيث جاء الناس للحج ومافتئوا رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق، وتذكرت مقولة أهلنا عن الذي يتهيأ للحج بأن فلان/ فلانة ناداهم المنادي!

ولم أزل أدير بصري في الآفاق فإذا بالفاروق عمر ابن الخطاب رضي الله عنه يقف شامخا طويل النجاد يهتف بأن يااااسارية الجبل!

وإذا بصوته رضي الله عنه ترتجُّ له السوحُ والفضاءات،

فأصحو فجأة على صوت أذان الفجر ينطلق من المسجد المجاور مختلطا به رنين جرس الهاتف معا، وإذا بالممرضة تبشرني بأن: مبروك جاتلك بنت…

تلك كانت أيام ولحظات ميلاد كتبها الله لي من بعد ميلادي البايولوجي الأول يا احباب.

اسأل الله ان يبارك لنا في أعمارنا ويهبنا العافية.

adilassoom@gmail.com

‫شاهد أيضًا‬

الهندي عزالدين  التحية لجيشنا العظيم ومنظومة الصناعات الدفاعية

ودّعنا فجر أمس ، من محطة السد العالي في “أسوان” الجميلة الرائعة ، ركاب القطار …