خواطر ابن الفضل الصحابة بين التوثيق التاريخي والتشويه العقدي: قراءة في جذور الأكاذيب الملفقة د.محمد فضل محمد

لم تعرف البشرية جيلًا أنقى سريرةً ولا أصفى قلوبًا من جيل الصحابة الكرام الذين تربوا في مدرسة النبوة، وبلغوا الإسلام للعالمين.
غير أن أعداء الدين لم يطيقوا بقاء هذا المجد ناصعًا، فاندسّت بين كتب التاريخ روايات شعوبية ورافضية ومستشرقة شوهت سيرتهم العطرة، حتى صوّرت الصحابة وكأنهم طلاب دنيا وصراع على الحكم، وهي أكاذيب لا تصمد أمام منهج التحقيق العلمي، ولا أمام شهادة القرآن والسنّة والتاريخ الموثوق.
ولأن هذه الروايات لا تزال تُتداول في المنابر الرقمية والإعلامية، وجب الوقوف عند أبرزها نقدًا وتمحيصًا بمنهج أهل السنة والجماعة.
*الشبهة الأولى: زعم أن الصحابة ليسوا عدولًا وأن الفتن كشفت زيفهم*
مما لاشك فيه أن الصحابة عدول بإجماع الأمة، وعدالتهم ثابتة بنصوص الوحي.
قال الله تعالى:﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ [التوبة: 100].وقال النبي ﷺ: “لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أُحدٍ ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه” (البخاري ومسلم). وقال الإمام الذهبي:” من طعن فيهم فقد طعن في الدين، لأنهم حملة الشريعة ورواة السنة” (سير أعلام النبلاء 1/431).
أما ما وقع بينهم من فتن، فكان اجتهادًا بشريًا لا يقدح في عدالتهم، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: “ما وقع بين الصحابة من قتال فكلهم مجتهد مأجور، من أصاب فله أجران، ومن أخطأ فله أجر واحد.” [منهاج السنة، ج6 ص236]. وقد نهى علي رضي الله عنه أصحابه عن سبّ خصومهم فقال: “إنما قاتلناهم على ما نقاتلهم عليه، وليس على كفرهم.” مما يثبت أنه لم يكن يراهم فاسقين ولا كفارًا. بل يدخل في قوله ﷺ”: إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد” (البخاري ومسلم) و قرر الإمام ابن تيمية في منهاج السنة(ج4 ص 381): “ما وقع بينهم لم يكن لأجل دنيا، وإنما كان عن اجتهاد في طلب الحق، فالمصيب منهم له أجران، والمخطئ له أجر واحد”.، وقال القاضي عياض في الشفا )ج2 ص110:) عدالتهم مقطوع بها عند جميع أهل السنة، لثبوت مدح الله لهم وثناء نبيه عليهم، فلا يضرهم اختلاف وقع بينهم بتأويل أو اجتهاد”. فكيف يُعقل بعد هذه النصوص أن يُجعل اجتهاد بعضهم ذريعة لسبّهم أو وصفهم بالفساد؟!
*الشبهة الثانية: أن “ابن سبأ” شخصية خرافية اختُرعت لتبرير الفتنة، وأن الثورة على عثمان كانت نتيجة فساد بني أمية*
وهذه دعوى باطلة، تُكذّبها المصادر التاريخية الموثوقة:فقد ذكر ابن جرير الطبري في تاريخه (ج4 ص340) والبلاذري في “أنساب الأشراف” وابن عساكر أن ابن سبأ كان يهوديًا من اليمن أظهر الإسلام، وطاف بالأمصار يُحرّض الناس على عثمان. كما بيّنوا دوره في إثارة الفتنة ضد عثمان رضي الله عنه، وكان رأسًا في النفاق، يُظهر الإسلام ويبطن الكفر، وغايته بث الفرقة بين المسلمين، وهي ذات الغاية التي ورثها عنه أهل البدع.
وكان أول من أظهر القول بوصاية على رضي الله عنه، وقال لأتباعه: “في علي شبه من عيسى”، وهذه أول بذرة للتشيع الغالي الذي تطور فيما بعد إلى رفضٍ صريحٍ للصحابة، وإنكار وجوده محاولة لتبرئة التشيع من أصوله المنحرفة، لا دليل عليه إلا الهوى
أما الفتنة التي وقعت في عهد عثمان وعلي رضي الله عنهما، فهي ليست دليلاً على فساد الصحابة، بل على أن الفتنة إذا اشتعلت لا تُبقي ولا تذر. ومع ذلك، كان خيار الصحابة ينهون عنها، وقد قال على رضي الله عنه: “إنها فتنة، القاعد فيها خير من القائم”.
وما نُقل عنه من مظالم لعثمان لا أصل له في الروايات الصحيحة، بل هو من الأكاذيب التي أشاعها السبئية لتحريض الناس على الفتنة، وعثمان بن عفان رضي الله عنه من العشرة المبشرين بالجنة، وزوج ابنتي النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد السابقين الأولين إلى الإسلام. وقد كان من أكثر الناس عدلًا وزهدًا، وقد شهد له النبي ﷺ بقوله: “ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة (رواه مسلم). فكيف يُعقل أن يُظلم رجل شهدت له الملائكة بالعفة والحياء؟ وقد شهد له الصحابة بالخير، فقال ابن عمر: ما رأينا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدًا كان أبرّ بنا من عثمان. وقال الإمام ابن كثير: لم يكن قتله عن بينة وعدل، بل عن تحريض وغوغاء وجهل.
فقد كانت تلك الفتنة مؤامرة ماكرة هدفت إلى شق صف الأمة، وقد قُتل الخليفة الراشد مظلومًا صابرًا محتسبًا، ففاز بالشهادة والدرجات العلا. وإنّ اتهام عثمان بالظلم باطل؛ إذ كان من أكثر الناس عدلًا وزهدًا
أما ما يُقال عن “أقارب عثمان”، فليس فيه ظلم موثوق، بل اجتهاد إداري كما يقع في كل حكم، وصحيح أنه عين بعض أقاربه في مناصب إدارية، لكن هذا لا يدل على الظلم أو المحاباة المفرطة، بل كان حرصًا على الكفاءة والوفاء قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (ج4 ص382) يوضح: “التعيين الأقاربي في الدولة أمر لا يفسد العدالة إذا كان المختار أهلًا، وما وقع عند عثمان لم يكن جائرًا بل على أساس الكفاءة والقدرة”. وحاشا عثمان ان يختار من اجل العصبية والمعروف عنه انه كان من أزهد الناس وأكرمهم، وقد جهز جيش العسرة بماله الخاص، وقال النبي ﷺ فيه:“ما ضرّ عثمان ما عمل بعد اليوم”. والذي حرض الناس على عثمان كانوا جماعات خارجة عن طاعة الله، أتباع عبد الله بن سبأ، ونصّابون سياسيو النفوذ في الأمصار.ولم يكن لاي من الصحبة يد في قتله
*الشبهة الثالثة: تبرئة ابن ملجم الخارجي بزعم أنه “حافظ للقرآن ومعلم له” وأن قتله لعلي كان اجتهادًا*
وهذا قول يروّجه أتباع الخوارج والمستشرقين المعادين لفكرة الخلافة الإسلامية، وتعد من أبطل الشبه، فالقرآن لا يعصم صاحبه من الانحراف إن لم يعمل به، قال الله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا… مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ۚ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [الجمعة: 5]، وابن ملجم وإن كان يقرأ القرآن فقد قال فيه النبي ﷺ في وصف أمثاله 🙁 يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية متفق عليه. فالعبرة ليست بحفظ القرآن، وإنما بفهمه والعمل به. وقد أجمع العلماء على كفر فعله وشناعته؛ إذ قتل خليفة راشدًا وصفه النبي ﷺ لو سلك عمر فج لسلك الشيطان فجا اخر) ونصّابون سياسيو النفوذ في الأمصار وهو أحد المبشرين بالجنة، وقتلُه لعليّ رضي الله عنه جريمة عظيمة لا يُمكن تبريرها بعقل ولا شرع.
*الشبهة الرابعة: اتهام الحسن بن علي بأنه باع الخلافة طمعًا في المال والنساء*
وهي فرية باطلة نشأ أصلها عند بعض المؤرخين الشيعة والمستشرقين الذين أرادوا تشويه صورة الصلح، والحسن رضي الله عنه لم يبع شيئًا، بل تنازل عن حقه في الخلافة لله تعالى حقنًا لدماء المسلمين، مصداقًا لحديث النبي ﷺ: (إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ) رواه البخاري، و كان ذلك من أعظم المواقف في تاريخ الإسلام، حتى سُمي عام الجماعة. وذكر ابن كثير في البداية والنهاية (ج8 ص18): “الحسن رضي الله عنه أزهد الناس في الدنيا، وكان كل همه حفظ دماء المسلمين”. ولو كان الحسن يسعى إلى جاه أو سلطان، لتمسك بالحكم وقاتل لأجله، لكنه آثر مصلحة الأمة على مصلحته الشخصية، خلافًا لما يدعيه خصومه من الرافضة وأعداء السنة الذين يبتغون الطعن في رموز الإسلام وتشويه سيرتهم.
*الشبهة الخامسة: الطعن في يزيد بن معاوية وربط واقعة “الحرّة” بفسقه وإجرامه*
ويُستدل بذلك على فساد الحكم الأموي وضرورة فصل الدين عن السياسة وهذا كذب وافتراء فأهل السنة لا يُقدّسون يزيد، ولا يلعنونه؛ فهو ملك من ملوك المسلمين له حسنات وسيئات. وما حدث في وقعة الحرّة لم يكن بيده ولم يأمر به وإنما كان بأيدي جنوده دون أمر مباشر منه، وقد ندم على ذلك وأمر بمعاقبة من تجاوز، ومن المعلوم أن عهد شهد توسع للدولة الإسلامية وكان في عهده أول جيش يغزو الروم، وقد قال النبي ﷺ:( أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور له ) رواه البخاري وفي هذا الجيش أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه.
وفي الختام ان الطعن في الصحابة رضي الله عنهم ليس مجرد إساءة لأشخاص، بل هو طعن في الدين نفسه، فهم حملة الرسالة، ورواتها، وأمناؤها. وما يُروّج من شبهات حول عدالتهم أو دوافعهم أو مواقفهم التاريخية، إنما هو نتاج روايات مشبوهة، وأهواء منحرفة، وأجندات فكرية تسعى لهدم الثوابت وزعزعة الثقة في مصادر الإسلام.
وقد أثبت التحقيق العلمي، والنقل الصحيح، والمنهج السني المتزن، أن هذه الشبهات لا تصمد أمام الحق، وأن الصحابة كانوا مثالًا في الإخلاص والعدل والتضحية، وأن ما وقع بينهم من خلافات كان اجتهادًا لا يُنقص من قدرهم، بل يُظهر إنسانيتهم وعدالتهم.
وواجبنا اليوم أن نُعيد قراءة التاريخ بعين الإنصاف، ونُحصّن الأجيال من الروايات الملفقة، ونُرسّخ في الوعي الجمعي مكانة الصحابة، فهم الجيل الذي اختاره الله لصحبة نبيه، وحمل أمانة هذا الدين العظيم.
وزير الشباب والرياضة يعلن استعداد وزارته للتعاون الكامل مع الصندوق في رعاية الطلاب
أكد وزير الشباب والرياضة البروفيسور أحمد آدم أحمد ، استعداد وزارته للتعاون الكامل مع الصند…