زاهية والأرض السبخة عادل عسوم
(أحداث هذه القصة حقيقية في الكثير من تفاصيلها، لكنني قمت بالتحوير في أسماء شخوصها، ونُذُرٍ من تفاصيلها، حرصا على السِتر، واتساقا مع سياق القصة).
وقفت أمام المرآة تتأمل جسدها الفارع الممشوق، وقوامها الذي قالت عنه زوجة خالها الأمريكية بأنه Slim، وتعهدت بكفيها ضفيرتي شعرها الأسود الطويل، وأنحنت مقتربة أكثر وهي تحدق بإعجاب في عينيها الدعجاوين، وبياض إهابٍ ورثته عن أبيها صاحب الجذور التركية من خلال أمه، ثم شرعت تدندن راقصة:
ياالزاهي في زيّك في وسامتك ياااااا…
مانحنا عايشين علي ابتسامتك ي..
وفجأة؛
تقتحم عليها أمها الغرفة غاضبة:
-يابت أنا ستين مرة ما (قايلالك) تسيبي العرجين القدام المراية دا؟
وهوت بيدها على ظهرها،
إنتي بس الله يطيرك يمرقك منّي، والله مافي واحدة من اخواتك فقعت مرارتي زيّك، يلا أمشي على العدّة ديك غسليها.
هرولت (زهرة) إلى المطبخ، وجلست تغسل المواعين وهي تلعن حظها العاثر.
جاءت إلى الدنيا بعيد زوال نعمة كانت الأسرة تتمتع بها إلى عهد قريب، والدها كان تاجرا كبيرا مشهود له بالغنى، وكذلك بالطيبة والكرم، لكن دارت عليه الدنيا من حيث يدري ولايدري فافتقر وأصيب بجلطة ألزمته الفراش واصبح لايقو على الخروج من الدار إلا قليلا، واعتادت زهرة القول لصويحباتها في الحي:
– الواحد في الدنيا دي أصلو مايكون طيب مع الناس، أبوي كان أغنى زول في الحِلَّة، لكنو ضيع قروشو كلها في الناس المابتستاهل دي، ويومو الإحتاج للناس؛ زول جاب خبرو مافي!.
كم نصحتها صديقتها وجارتها وزميلتها في المرحلة الثانوية حنان بأن لا تسمح لهذه المشاعر السالبة السيطرة عليها، فيكون رد زهرة:
– أسكتي أنتي بس، انتي شِنْ عرّفك بالدنيا كمان.
كم كانت تَغْتَمّ عندما تسوقها قدماها الى دُورٍ أفاء الله على أهلها بالنعمة، فتقول لحنان:
مايستاهلوها والله!.
فترد حنان:
– استغفري يازهرة، وخافي ربك، والله الحسد دا ألاّ يودرك.
فترد عليها:
-أسكتي بس، وبعدين ستين مرة أنا قايلالك أوعك تناديني بي (قشرة) دي، أنا إسمي زاهية، زاااااهية سامعة واللا لأ…
كم كانت تعجبها نظرات الإعجاب والأستملاح من الآخرين، وكم سعت إلى تصيد فتيان الحي الأكثر وسامة والأيسر حالا منهم، توحي لكلٍّ منهم بأنه الأوحد الأثير لديها، وهي بذلك يكتنفها احساس برضى كاذب لاتعلم كنهه…
أبوها الذي أضحى حرضا ظل ملاذها كلما قسى عليها أخوها الذي يكبرها، وقد اعتاد ترصد خطواتها وتعنيفها، بل وضربها رفضا لطريقة مشيها، وأسلوب حديثها مع الشباب بالذات.
زهرة آخر العنقود، وهي ثالث ثلاثة من البنات تزوجت الاثنتان وسافرن مع أزواجهن الى مدن أخرى داخل السودان، وبقيت هي الوحيدة مع أخيها في البيت في معية الوالدين…
كانت قد فرغت لتوها من إمتحان الشهادة الثانوية، وأزَفَّ موعد إعلان النتيجة، ونجحت زهرة لكنها لم تتحصل على النسبة التي تؤهلها لدراسة الطب كما كانت تتمنى، يومها بكت طويييلا وهي تلعن حظها العاثر، وقالت لصديقتها حنان:
– أصلو الدنيا دي أنا عارفاها ماحتديني العاوزاهو…
فتقول لها حنان:
– أحمدي الله، ترانا نجحنا الاتنين، شوفي كم واحدة من زميلاتنا سَقَطَن، دي إرادة ربنا، فتحتنضنها وتبكي على كتفها طويلا…
لم تجد زهرة سوي تخصص الكيمياء بكلية العلوم في جامعة من جامعات الولاية المجاورة، حيث تم قبولها برفقة صديقتها حنان التي لم تؤهلها نتيجتها إلا لدراسة كلية التمريض العالي في تلك الجامعة، ولكن ما إن أزف موعد السفر إلا وتُتفاجأ زهرة بتخلف صديقتها عنها، لقد أتصل شقيق حنان الأكبر من العاصمة وأعلن للأسرة رفضه دراستها للتمريض العالي، وأصر عليها بإعادة العام الدراسي والجلوس للامتحان مرة أخرى، حزنت زهرة لذلك في بادئ الأمر، لكنها عادت وقالت لنفسها:
– أحسن زاتو، بي كدا أكون أتفكّيت من نصائحها الكتيرة دي…
سافرت زهرة مع والدتها وشقيقها ووصلوا إلى مقر الجامعة، وتمت أجراءات تسجيلها، وحظيت بفرصة للسكن في داخلية البنات بالجامعة…
ثم شرعت في التعرف على أصدقاء وصويحبات جدد، وكانت كذبتها الأولى قولها لزميلاتها بأنها (شهادة عربية)، وان أسرتها تقيم في احدى دول الخليج، وأن اسمها (زاهية)!…
ولم تنس بأن تُدخِل على لهجتها بعض الكلمات الخليجية:
الله يحيّيكي…
ياهلا…
تكفين…
ما أدري…
ليش…
و ماابغي…
وسواها من الألفاظ التي ألتقطتها من قريبات لها يَعِشْنَ في تلك البلاد…
زهرة لم تكن تحتاج إلى بذل الكثير لتبدو في ثوب بنت الذوات، فهي بجانب جمالها لديها حضورٌ يلحظه كل من يتعامل معها، وقدرة فائقة على التأثير فيمن حولها، وهي كذلك بارعة -بفطرتها- في مظاهر الاتيكيت والبرستيج، يضاف إلى ذلك ذكاءٌ ونباهةٌ وبديهةٌ حاضرة يتبينها كل من يجالسها أو يلتقيها صدفة…
لحسن حظ زهرة لم يكن في القسم الذي تدرس فيه أحدٌ من اصحاب الشهادة العربية سوى طالبة من أهل تلك المدينة اسمها نازك، توفي والدها في دولة الإمارات العربية المتحدة لتعود الأسرة إلى السودان وتلتحق بذات الكلية، ولكن مع بداية العام الثاني، فاصبحت صديقة لها…
الجامعة تمور بنشاط كبير لأطياف اليسار على عمومها، ولم يكن ذلك مستغربا إذ غالب الطلبة والطالبات من مدينة مجاورة سبق أن شهدت خلال السبعينات -في عهد الرئيس نميري رحمه الله- حراكا كبيرا عماده نقابة السكة الحديد…
ولقيت (زاهية) ترحيبا كبيرا وصداقات من قِبَلِ العديد من كوادر اليسار في الجامعة، فانخرطت شيئا فشيئا في أنشطتهم الثقافية والاجتماعية، وأضحت كل أمسياتها بينهم،
والحق يقال إنها لم تكن تحب أفكار اليسار، إذ ألفاظٌ ومفاهيمٌ مثل البلوريتاريا والطبقات المسحوقة والعمال، كانت توحي لها وتذكرها بحياة الفقر والمعاناة التي تعيشها، تلك الحياة التي تسعى للهروب والانفكاك عن أُسارها بخواطرها قبل واقعها حالمة بسوحٍ وفضاءاتٍ للثراء والأضواء…
لكنها وجدت في عوالم اليسار ما هُيِّئَ لها بأنه حُبٌّ للثقافة والاستنارة، يضاف الى ذلك سَمْتُ للتحرر من القيود، ورغبةُ كامنة للتفلّت عن اسار التقاليد والعادات تبينتها في العديد من اليساريات….
وعن الدراسة فقد استطاعت التفوق فيها منذ البدئ، وعمدت إلى إحاطة نفسها بهالة الطالبة المتفوقة والمتميزة.
لكن ما إن انتصف العام الدراسي الأول انقطعت عنها المصاريف -على قلتها-، بعد أن أضحت تتأخر كثيرا في الوصول اليها، فأيقنت بأن حال اسرتها قد ارتكس بأكثر مما كان عليه، وأسقط في يدها وهي تجهد نفسها بحثا عن مصدر للصرف على الشخصية التي رسمتها لنفسها، بحثت عن أرقام هواتف لأهلها ممّن يقيمون في العاصمة واتصلت بهم لكنها لم تجد بغيتها، فالكل حالُه يغني عن سؤاله…
وخلال صباح يوم جديد إنضم إلى الكلية أستاذٌ للّغة الأنجليزية، إنه شابٌ من حَمَلةِ الماجستير أتت به (اللجنة الشعبية) المشرفة على الجامعة، وقد كان مُعيداً في إحدى جامعات العاصمة، استعانت به الجامعة بعد مغادرة محاضِرَتان -فجأة- إلى إحدى دول الخليج، إحداهن مرافقة لزوجها والأخرى لتعاقدها مع إحدى الجامعات هناك،
وعُلِمَ عن القادم الجديد بأن جذوره من المدينة المجاورة حيث سمعت زهرة بإسمه يتردد كثيرا في ثنايا أحاديث ونقاشات زملاءها من المنتمين إلى اليسار، فالرجل كادر يساري شهير، ووالده كان عضوا نشطا في نقابة السكة الحديد،
وباشر الأستاذ عمله كمعيد بالكلية لتتبين -منذ الوهلة الأولى- بأنه صيد ثمين، وحواء بطبعها تعرف مغزى نظرة الرجل اليها مهما حاول اخفاء رغباته، وبانتهاء المحاضرة الأولى لحقت به في مكتبه بدعوى الاستفسار عن المحاضرة مستصحبة النية بأن تريه من نفسها أستعدادا للمسايرة، وبانصرام الأسبوع الأول إذا بها تحظى منه بموبايل حديث…
وتوالت الأيام، وقويت الصلة بين زاهية وأستاذ حسن، وبدأ الهمس في مجتمع الجامعة (الصغير) يعلو يوما بعد يوم، وأضحى الكل يَلِغُ في حكايتهما، لكنها كانت تدافع عن نفسها وتدّعي دوما بأن الذي يُرَى عليها من ألبسة جديدة وعطور وآثار نعمة مرده ماترسله لها أسرتها المقيمة في الخليج، ويصل الأمر بها إلى تذوق طعم الخمر لأول مرة في حياتها!، وتصبح القضية فاكهة لأركان النقاش بين أحزاب اليمين واليسار، وتصبح زاهية شخصية مبجلة لدى أطياف اليسار، بينما تنتاشها ألسنة الإسلاميين، ويتواصل الحديث ليصل الى أفراد اللجنة الشعبية ومجلس الجامعة، فالمدينة مازالت تحتفظ بروح القرية والحرص على ضوابط السلوك والأخلاق، فيصدر القرار بالاستغناء عن خدمات الأستاذ حسن، وتعود زهرة الى المربع الأول، بل أضحى وضعها أسوأ من ذي قبل بعد أن اعتادت على حياة الرفاه بما كانت تتلقاه من أموال وهدايا من أستاذ حسن، وأعياها التفكير لايجاد حل، إلى أن كان يوم خروجها مع صديقتها نازك…
نازك دونها جمالا وذكاء وتحصيلا في دراستها، لكنها كانت بنت ذوات بحق، ولدت ونشأت في دولة الإمارات العربية المتحدة ثم درست كل مراحلها التعليمية حتى اكمالها للمرحلة الثانوية هناك،
وازدادت متانة صداقة زاهية ونازك، وطلبت منها نازك أن تمضي معها عطلة نهاية الأسبوع في بيت أسرتها فلبّت الدعوة، وتحصلت على موافقة من إدارة بيت الطالبات (الداخلية) للمبيت في الخارج، وجاءهم ابن عم نازك وخطيبها (زهير) ليقلهما بعربته إلى منزل أسرة نازك، قالت له نازك مخاطبة:
– زهير أعرفك بصديقتي وزميلتي زاهية، طبعا حاتقضي معاي الليلة وبكرة.
– أهلا بيكي يازاهية، وشرفتينا كتير والله…
– الله يبارك فيك ياأستاذ زهير.
وواصلت زهرة قائلة:
– طبعا الشابة دي كلاما دايما معانا عنّك، اييييك شُكُر شديد وكلام حلو، وختمت حديثها ضاحكة:
– ربنا ييسر ليكم ويتمم زواجكم علي خير يااارب.
فيرد زهير:
– والله فيها الخير، نازك دي بتَّ العم قبل ما تكون النص الحلو، ثم ابتسم ونظر الى نازك التي بادرته قائلة:
– خلاص يازهير بقّيتني نص من هسى؟… كدي بالله خلينا من مَكَناتَك دي وركز لينا قدامك ماتقوم تعمل بينا حادث كمان، وضحك الجميع…
أحست زهرة بعدم الارتياح من نظرات زهير الذي كان كثير الالتفات لاستراق النظر إليها، بل وصلت به الجرأة إلى تعديل وضع المرآة الأمامية لتطل عليها مباشرة وهي تجلس في المقعد الخلفي من العربة!…
وصلوا الى بيت أسرة نازك لتتلقاهما والدة نازك وأخوتها الصغار، ومنهم شقيقها الأوحد سامي أمام مدخل المنزل،
والتقتها والدة نازك بحنان بالغ، احتضنتها وقبّلتها قائلة:
– ماشاء الله عليك يابتي، النبي حارسك، صدقت نازك، فتفاجأت زهرة وقالت ضاحكة:
– انتي ياخالتو نازك دي أصلها قالت ليكم شنو عنّي؟!
– والله يابتي طواااالي بتشكّر فيكي…
وصاح سامي إبن الخامسة:
– والله نازك دي كلو يوم تقول لينا معانا واحدة اسمها زاهية سممممحة شدييييد زي ملكات جمال العالم…
فما كان من زهرة الاّ أن أمسكت به وقبلته ضاحكة وقالت:
– أها بالله مش كضااااابة نازك دي، وطلعت أنا شييييينة لمن بيغادي؟…
رد سامي وقال:
– لا والله ماكضابة ولاحاجة، انتي صحى سمحة شدييييد زي الممثلات في المسلسل التركي،
وضحك الجميع، ثم أردفت نازك قائلة:
– أها يازاهية سامعة الشكر دة كللللو؟ قصرت معاكي؟
– والله بالغتي عدييييل كدا يانازك، ملكة جمال العالم مررررة واحدة.
فقالت والدة نازك:
– غايتو بعد شهادة سامي دي تاني مافي أيّ كلام يابتّي، سامي دا عاد لابيعجبو العجب ولا الصيام في رجب، ويتواصل الضحك، ويتواصل الترحيب بزهرة،
أتت الخادمة الحبشية وحملت حقيبة زهرة الصغيرة وأدخلتها إلى غرفة جانبية وعادت لتصوب حديثها إلى الوالدة وتعلمها بأن الغداء جاهز، واتجهت زهرة إلى دورة المياه لتغسل يديها ووجهها، وشرعت تتجول ببصرها في أرجاء المنزل، كم راقها جماله وأثاثه الفخم، وكم أعجبتها الألوان ومنظر اللوحات الكبيرة الرائعة التي تزين الجدران، شرعت تقارن حال أسرتها بحال أسرة نازك فانتابها شعور غير مريح لم تعلم أهو حسدٌ أم غيرة، أَسَت لحالها وهي تنظر الى وجهها في المرآة، واذا بنازك تناديها:
– زاهية شنو؟! الغدا دا برد يابت؟
– خلاص جاية يانازك…
وجلست الى المائدة بين يدي ترحيب نازك النابع من القلب وحنان والدتها التي ما فتئت تقرِّب إليها اصناف الطعام وتحلف عليها بأن لا تنهض الاّ بعد أن تاتي عليه جميعا…
وما ان حلّ المساء عاد زهير بدعوى أخذهم للطواف على معالم المدينة، ولم يعودوا الاّ بعد انتصاف الليل حيث تناولوا وجبة العشاء بدعوة من زهير في أحد مطاعم المدينة…
أمضت زهرة يومين وليلة لم يفارقهم خلالها زهير الاّ قليلا، وكان يذهب الى (دكان الجملة) الذي يخص المرحوم عمه ووالد خطيبته نازك، والاخيرة كانت تتقبل كل تصرفاته بقلب أبيض وطيبة تنم عن سماحة وجدان وسلامة نفس.
وفي صباح السبت أوصلهما زهير الى الكلية مع بداية المحاضرة الأولى، وسمح لهما المحاضر بالدخول فلم تجدا سوى مقعدين متباعدين لتجلس كل منهما على احدهما، وأدخلت زهرة يدها في حقيبتها لتتفاجأ بظرف به مبلغ من المال وقد كُتِبَ على الظرف هذه العبارة:
مع تحياتي لك يا زاهية.
زهير.
وفي المساء رن هاتفها، فإذا بالمتصل زهير، فبادرته قائلة:
– انت الأداك رقمي دا منو؟!
– كدي خلينا من رقم تلفونك وطمنيني عليك.
– طيب نازك عارفة حكاية القروش الختيتا لي دي؟!
– يازاهية خليكي من بت عمي دي هسّي وجاوبيني.
– يا أخ زهير حرام عليك والله، مش نازك دي خطيبتك؟!
– دا موضوع طويييييل، بحكيهو ليكي يوم ان شاء الله، المهم حبيت أطمئن على أنك بخير، سلام.
ليلتها سهرت زهرة طويلا، وظلت تتقلب على فراشها متنازعة النفس وسط زخم من المشاعر المتناقضة ظل أوارها مشتعلا في دواخلها لساعات، فإذا بها تجد نفسها في غابة جميلة، تتخللها نوافير مياه عديدة، وتكتسي الغابة بعدد كبير من الأشجار المزهرة تضج بزقزقة العصافير ويكتنفها نسيم مشبع برائحة الورود …
لكنها كلما لمست وردة من الورود تجد يدها قد تخضبت بالدماء!، فتنتزع يدها بسرعة ويتملكها خوف شديد، وتنتفض بشدة لتجد نفسها تتوسط فراشها جالسة وقد أصبح صباح جديد!…
لم تستطع زهرة مقاومة اغواء واغراء زهير، اعتادت الخروج معه كثيرا دون علم نازك، رأت آثار النعمة بادية عليه، وابتاع زهير سيارة جديدة مكيفة، وظل يغدق عليها بالمال ومن الهدايا الكثير…
علمت زهرة من زملائها وزميلاتها بأن زهير كادرٌ نشط من كوادر الحزب الحاكم، سألته عن ذلك مرة فقال لها بأنها مصلحة!، وأن الحزب هو الذي سعى اليه لكون اسرته من أشهر بيوتات المدينة، وسألته أيضا عن طبيعة شعوره تجاه نازك فقال لها بأنها لا تزيد عن مشاعر ابن عم تجاه بنت عمه! وعندما سألته عن أمر الزواج منها قال بأنه ليس سوى ترتيب من العائلة دون رغبة منه!
لكنها كانت تعلم كذب زهير، فقد أخبرتها نازك بأنه الذي سعى إلى الخطوبة بمجرد عودتهم من الإمارات، (ولعله فعل ذلك ليضمن السيطرة على أملاك عمه المرحوم) قالت زهرة ذلك لنفسها، لكنها بقيت تغض الطرف عن كل ذلك، فالذي يعنيها في المقام الأول تأمين متطلباتها من زهير، وتشبثت به أكثر لاعجابها بحديثه الذي يشي بثقته بنفسه، ولقوة شخصيته، ولهيبته بين أهل تلك المدينة… فيغمرها احساس كبير بالأمان كلما خرجت معه، لقد وجدت فيه الرجل الذي كانت تبحث عنه في خيالها، إذ هو بجانب صفاته تلك كان الصيد الثمين الذي يحقق لها الكثير مما تفتقده، لكنها ظلت أسيرة لمشاعر سالبة تخصم -بل وتئد- كل شعور بسعادة يضفيها عليها، وتَمَنّت لو أنها التقته قبل أن تتعرف إلى نازك، اذ كم يؤلمها أن تجد نفسها في موضع الخائنة لصديقتها، ماذا تقول نازك إن علمت بأنه عرض عليها الزواج دونها؟!…
وتمر الايام… وتكتشف زهرة كل يوم عيبا جديدا في زهير!
الكذب…
الجشع…
البخل الاّ تجاهها… نفاقه في علاقته ببنت عمه نازك… سرقته لأموال الحزب الذي ينتمي اليه سياسيا…
وغير ذلك كثير.
وبعد مرور أشهر، يصبح زهير مسئولا ولائيا بدرجة وزير ولائي، وينتقل إلى مكاتب الولاية المجاورة لمباني الجامعة ليتخذ من سيارات الحكومة مطايا له، أما زهرة فقد ألزمت زهير بتعيينها في وظيفة (صوريّة) بمكاتب الولاية، لكن زهير طلب منها قبيل تعيينها أن تطلب من نازك التوسط لديه ليبدو الأمر طبيعيا، فاستجابت نازك -البريئة- رغبة في خدمة صديقة تعلم مدى حوجتها المادية…
وبدأت الألسن في المحيط الجامعي تتحدث -بصوت خفيت- عن العلاقة الجديدة بين زاهية والمسئول الكبير، ولكن لم يجرؤ أحد بأن يتحدث جهرا عن علاقة سعادة الوزير بإحدى الطالبات في الجامعة!…
وبدأت زهرة تتلمس مواطن أقدامها في عوالم جديدة، تملكها إحساس بأن زهير ليس بالشخص الذي يشبع تطلعاتها الكبيرة، أعانتها على ذلك بعض نظرات الاعجاب من وزير هنا ومسئول كبير هناك…
ثم وجدته…
إنه وزير كبير من أحد أحزاب حكومة الحوار الوطني الجديدة، ستيني تعلق حباله ببنت عشرين كما يقول كابلي، فتمهر معه صك زواجٍ عُرفي ولكن باشتراط منها بالاحتفاظ بالوثيقة دونه، وذلك عندما رفض الوزير الكبير الزواج الصريح بينهما، وتصبح زاهية مسئولة مكتبه والآمر الناهي في الوزارة، ولم تنس بأن تستميل إليها محاسباً ضليعا وآخر يلمُّ بكل خفايا مسار الأموال من المركز الى الولاية، وبعد أشهر قلائل ابتاعت بيتا تحيط به حديقة غناء في أحد أرقى أحياء العاصمة، وأتت بأسرتها من الريف لتسكنهم فيه، أما زهير فاستقوت عليه وازاحته عن طريقها، بل عن المنصب الذي تقلده!
وتكمل زاهية البكالوريوس، ثم تشرع في الماجستير، وتحرص على الانتظام في دورات للغة الانجليزية المكثفة لاكمال هالة الكاريزما المطلوبة لترتقي وظيفيا أكثر، وعَنَّ لها أن تقرأ في تأريخ وأدبيات حزب الوزير حيث أعانها هو على ذلك مستصحبة ذكاءها الوقاد وحسن أدراك فُطرت عليه، وتصبح ملئ السمع والبصر من قادة الحزب الطائفي، وإذا بمخصصاتها تزداد من الحزب والحكومة المركزية معا، وعندما استشعر الوزير رضا قادة حزبه عن زاهية طلب منها تحويل زواجهما العرفي الى زواج يعلنه بنفسه على الناس، لكنها رفضت ذلك!…
وازدادت وتيرة سفرها الى العاصمة من خلال مهام مدفوعة الأجر، بعضها من من مخصصات الحكومة والآخر من مخصصات الحزب،
وخلال كل ذلك كان أمر قلبها عجيب!…
لقد أحبت زهير بكل مافيه من سلب!…
لعله كان أول من خفق له قلبها حقا من الرجال، لكنها كانت تدوس على مشاعرها كلما ساقها خيالها الى أيام زهير، وبقيت صورة نازك (وضيئة) في خيالها، فتنتابها غصة أليمة في حلقها وطعنة في صدرها كلما طافت بخيالها…
وفي صباح أحد الأيام تفاجأت برسالة في صندوق بريدها معنونة باسمها، فضَّت المظروف فإذا بالرسالة من نازك:
صديقتي -يوما- زاهية،
لا أدري ما الجرم الذي ارتكبته في حقك حتى تكافئيني بالذي اراه،
يشهد الله بأنني أسهر الليالي الطوال وافكر عساني أجد خيطا رفيعا يشفع لك عن الذي بدر منك من سوء تجاهي،
لقد أدخلتك بيتنا وتلمست بنفسك صدق محبتهم لك، ثم توفيت والدتي ولم تكلفي نفسك حتى إتصال عزاء!، ثم عرّفتك بخطيبي فكان منك الذي كان…
لا أقول لك الاّ سامحك الله يازاهية، أكتب لك الآن وأشهد الله بأن دواخلي لاتحمل لك أي ضغينة، اذ أني من الموقنين دوما بأن المرء منا لن يصيبه الاّ الذي يكتبه الله له، فقط أنشدك بالله وبما كان بيننا من مودة أن تستجيبي لطلبي هذا:
لقد بحثت عن زهير كثيرا الى أن وجدته في مدينة (…) وحاله يغني عن سؤاله، زهير أضحى قاب قوسين أو أدني من الجنون يازاهية، كل الذي أرجوه منك أن تتوسطي له ليعود الى عمله السابق، ولك أن تبحثي له عن مكان بعيد يتم تعيينه فيه ان لم ترغبي في رؤيته في ذات الوزارة التي تعملين فيها، وثقي بأنني لم أعد أفكر فيه كخطيب، ولا أرغب في عودة علاقتي السابقة به، الأمر يازاهية لا يزيد عن عدم رغبتي في رؤيته منكسرا وهو ابن عمي.
نازك
…
ما ان أكملت زهرة قراءة الرسالة حتى انهمر الدمع غزيرا من عينيها، وارتمت على المقعد بعد أن طلبت من السكرتير اغلاق الباب عليها، ثم أجهشت في بكاء شديد…
وخرجت من مكتبها بعد أن هدأ روعها، وقادت عربتها الخاصة إلى العاصمة، أوقفتها عند مدخل احدى الوزارات المركزية بعد استيثاقها من وجود الوزير فيه وولجت اليه، ثم خرجت وخطاب تعيين زهير في يدها وقفلت عائدة الى حيث تعمل وتقيم…
– ياعم فتح العليم؟!
– نعم سعادتِك…
– شيل الخطاب دا وأركب العربية ووديهو الآن للعنوان المكتوب عليهو دا وسلمو لي للأستاذة الاسمها مكتوب على الظرف بدون ما تاخد وتدي معاها في الكلام…
مفهوم؟
– حاضر سعادتِك…
وبعد أيام تصلها رسالة أخرى من نازك:
زاهية
أشكرك جزيلا على استجابتك لطلبي، لكن للأسف لقد سبق قضاء الله الى زهير، لقد وجد ميتا داخل البيت الذي يقيم فيه، والبعض يقول بانه انتحر!
لا أدري يازاهية لِمَ يكتنفني شعور قاتل بأنني أنا من تسببت في موته…
لا حول ولاقوة الاّ بالله.
أظلمت الدنيا في عيني زهرة وسقطت
وقد أغشي عليها، ولم تدر كم يوما بقيت على حالها، لكنها عندما استيقظت؛ إذا بها تجد نازك بجوارها تمارضها في المستشفى، ما كان منها الاّ أن أغمضت عينيها مرة أخرى واجهشت في بكاء مرير ونازك تحتضنها وتهدئ من روعها، لم تقو زهرة على النظر في عيني نازك، فأشاحت بوجهها إلى الحائط وازداد نحيبها، بكت كما لم تبك من قبل، وانتفض جسدها كالطائر الذبيح، وضمتها نازك اليها رابتة على شعرها الى أن غشيها النوم…
أفاقت زهرة لكنها بقيت تبحلق في وجه نازك في ذهول، فتبادرها نازك قائلة:
– زاهية مالك؟ قولي بسم الله!
– انتي منو؟!
– بسم الله الرحمن الرحيم يازاهية، انا نازك!
فإذا بها تشرع في صياح هستيري، وتمزق ملابسها، فتلفُّ نازك جسدها بملاءة، ويزيد هياجها، وتبدأ في خدش وجهها بأظافرها فتنبثق الدماء غزيرة لتملأ ثياب نازك،
وتصيح نازك بالممرضات ليساعدنها في تهدئتها.
وتنقل زهرة الى مشفى للأمراض النفسية والعقلية وتبقى فيها أشهرا، ومافتئت نازك تزورها كل شهر وقد اصبحت عميدة للكلية ونائبة لمدير الجامعة.
ثم يتبدل الحال بزهرة إلى وجوم عجيب، وتبقى على ذلك أشهرا أخرى…
وبعد عام قرر اهلها عودتها إلى مسقط رأسها هنااااك في الشمال…
ومافتئت تعيش هناك وقد اسماها الناس ب(زهرة المجنونة).
إنتهت
adilassoom@gmail.com
الامين العام للحركة الاسلامية:لن تهزّنا روايات أصحاب الغرض الكذوب
قال الشيخ على كرتي الامين العام للحركة الاسلاميةموقنين بعِظَم التكليف وثقل حمولته، مؤمنين …