‫الرئيسية‬ مقالات أصل_القضية | من سلسلة الجسر والمورد ٨ أغسطس ١٩٥٥م… شرارة التمرد التي كشفت هشاشة الدولة محمدأحمدأبوبكر–باحث بمركز الخبراء للدراسات
مقالات - ‫‫‫‏‫ساعتين مضت‬

أصل_القضية | من سلسلة الجسر والمورد ٨ أغسطس ١٩٥٥م… شرارة التمرد التي كشفت هشاشة الدولة محمدأحمدأبوبكر–باحث بمركز الخبراء للدراسات

التاريخ لا يُكتب فقط في صفحات الصحف، بل يُصنع حين تنهار توازنات المجتمع، وتتهشم أُسس الدولة دفعة واحدة.❞

 

في صباح ٨ أغسطس ١٩٥٥م، دوّت رصاصة في توريت لم تكن مجرد طلقة عسكرية، بل صرخة مجتمع تعكس هشاشة عميقة وانكسارًا في أواصره، ونموذجًا أوليًا لصراع هوية وتوزيع سلطة بين مركز هش وهوامش مهمشة.

 

لم تصب هذه الرصاصة جسد دولة ولدت حديثًا فحسب، بل ضربت البنية الاجتماعية والسياسية التي لم تُبنَ بعد على أسس تشاركية أو عقد اجتماعي موحد. في لحظة واحدة، كشفت عن تصدع الولاء الوطني، وتحول الولاءات القبلية والعرقية إلى حواجز فاصلة داخل المجتمع الواحد.

 

الولاء المحلي والهشاشة المركزية: مآلات ليست مفاجئة:

من منظور علم الاجتماع السياسي، كان ما جرى في توريت نتيجة حتمية لغياب مشروع وطني جامع. فقد ظل الولاء المحلي والقبلي أقوى من أي رابطة مع المركز، في حين كانت النخب الحاكمة في الخرطوم تنظر إلى السلطة والثروة كملكية خاصة، مما عمّق شعور الإقصاء والحرمان في الأطراف.

 

لا يمكن فهم هذا التمزق بمعزل عن إرث الاستعمار الذي ترك حدودًا سياسية، لكنها في الواقع كانت حواجز اجتماعية وثقافية واقتصادية فصلت مكونات المجتمع، وزادت من التباعد والتنافر بين المركز والهامش. فبدلًا من أن تكون الدولة منصة التقاء وتضامن، تحولت إلى منظومة سلطوية تعيد إنتاج العزلة والهامشية.

 

صراع الموارد: جذوة الحروب المفتوحة:

●وراء كل تمرد يكمن مطلب مشروع ومظلومية لم تُسمع. التوزيع غير العادل للموارد الاقتصادية — من أراضٍ ومياه وثروات طبيعية — مثل وقود أشعل الحروب. ●المجتمعات الطرفية، التي حُرمت من فرص التنمية، رأت في السلاح وسيلة شرعية لاسترداد حقوقها وصوتًا يعلو فوق صمت التهميش.

 

●الصراع إذًا ليس نزاعًا سياسيًا فقط، بل هو إعادة إنتاج لعلاقات قوة مركبة بين مركز متصلب وأطراف تسعى إلى العدالة والكرامة.

 

الدين واللغة: جسر الوحدة ومورد التكامل:

■لا يمكن تصور وحدة الشعب السوداني دون فهم الدور المحوري للدين واللغة. الإسلام في السودان ليس أيديولوجيا سياسية، بل دين فطري متجذر في وجدان المجتمع، ممارسة ثقافية وروحية يومية تتجاوز الخطاب السياسي. استهداف هذا العمق العقائدي من قبل أعداء الدولة هو استهداف مباشر لوحدة الشعب وهويته.

 

●إلى جانب الدين، تحتل اللغة العربية مكانة مركزية كعامل رابطة يربط مختلف المكونات الاجتماعية رغم تعدد اللهجات المحلية. العربية ليست مجرد وسيلة تواصل، بل إرث حضاري وثقافي يشكل عصب الانتماء الوطني.

 

●هذان الموردان — الدين واللغة — أكثر من أدوات اتصال أو معتقدات؛ هما جسر عبور ومرتكز لبناء وطن مستدام، وقوة ناعمة تعزز التكامل الاجتماعي والسياسي.

 

الدين بين وحدة المجتمع واستغلال الصراعات:

●يشكل الدين مرجعية ثقافية واجتماعية جامعة؛ حيث يتشارك المسلمون والمسيحيون المعتقدات التقليدية في قيم كبرى كالعدل واحترام الحياة وواجب الصلح. هذه القواسم يمكن أن تكون أرضية صلبة للوحدة الوطنية.

 

●لكن مؤخرا، ظهرت جهات خارجية وداخلية الى توظيف الدين أحيانًا كأداة للانقسام، وصناعة صراعات هوية تعتمد على العواطف أكثر من العقل، زاد من تعقيد المشهد. رغم ذلك، يظل السودان — بوصفه بوابة إفريقيا ونقطة التقاء بين العالم العربي وأفريقيا — يمتلك إمكانات روحية وحضارية تعزز اللحمة الوطنية.

 

اتفاقيات السلام “السياسية”: ترقيعات مؤقتة دون علاج جذري:

 

●الاتفاقيات التي تتابعت منذ ١٩٧٢م وحتى ٢٠٢٠م، مثل أديس أبابا، نيفاشا، وجوبا، كانت بمثابة ضمادات مؤقتة توقف النزيف لكنها لم تعالج جراح الدولة العميقة.

 

●كل اتفاقية على حدة أعادت إنتاج نمط الصراع ذاته، بوجوه وأسماء جديدة، دون إعادة صياغة العلاقة بين المركز والهامش، أو معالجة أسباب الصراع البنيوية.

 

الأزمة الراهنة: تكرار التاريخ في مشهد معقد:

●اليوم، تتجدد معادلة توريت في واقع متشابك يعج بفقدان الثقة، تعدد السلطات، وأطراف بأجندات متعارضة، في بيئة إقليمية ودولية متنافسة.

 

●المنظومة الأمنية متفككة، والقرار السياسي هش، مما يفتح الباب لتوسع العنف وانتشاره إلى مناطق جديدة. الهامش الجغرافي أصبح ممراً مفتوحاً للأسلحة والمقاتلين، مما يجعل السودان أرضًا خصبة لنزاعات متجددة إن لم يُكسر هذا الدوامة.

 

مآلات الحرب القائمة: تهديد وحدة السودان في دارفور

 

●الصراع الراهن في دارفور ليس نزاعًا عابرًا، بل اختبارًا حقيقيًا لبنية السودان الوطنية. تصريحات حاكم إقليم دارفور، مني أركو مناوي، التي تحمل إشارات واضحة لطموحات سياسية قد تقود إلى انفصال، تفتح جرحًا قديمًا يهدد وحدة البلاد.

 

●تصاعد الصراع مع دعوات تشكيل حكومة موازية في دارفور يزيد من تعقيد المشهد السياسي، ويعزز فرص الانقسام الفعلي. هذا التطور لا يهدد الأمن فقط، بل يضعف المركزية التاريخية للسودان ويهدد تماسكه.

 

●سيناريو انفصال الجنوب قد يتكرر ما لم تتوفر إرادة سياسية تعيد بناء العلاقة بين المركز والهامش، وتحقق مشاركة حقيقية في السلطة والثروة. استمرار الصراع وفقدان الثقة قد يقود إلى انقسام جغرافي جديد يعمق أزمة الدولة ويزيد هشاشتها.

 

استراتيجية “الجسر والمورد”: الطريق نحو البناء والاستقرار

 

■الجسر: تأسيس حوار وطني مستمر يربط بين المركز والهامش، ويؤسس لعقد اجتماعي جديد يضمن مشاركة حقيقية في السلطة والثروة، وصياغة دستور يعكس هذا التوازن.

 

■المورد: استثمار الموارد الطبيعية والبشرية في الأقاليم الطرفية كمحرك للتنمية الشاملة، وإعادة دمج المقاتلين السابقين في اقتصاد منتج بدل أن يكونوا عبئًا أمنيًا.

 

■الحسم الذكي: معالجة المظالم جذريًا عبر التنمية لا العنف، وبناء شراكات سياسية وأمنية ثابتة، وإنشاء منظومة إنذار مبكر لمنع تحول النزاعات إلى حروب.

 

أصل القضية: لا ينكسر حلقة العنف إلا بالعقد الاجتماعي:

من رصاصة توريت إلى اليوم، تبدلت الوجوه لكن جوهر الأزمة ظل واحدًا: هشاشة الدولة، غياب العقد الاجتماعي العادل، وتوزيع غير شفاف للسلطة والموارد.

 

دون استعادة هذا العقد، ستظل البندقية تجد مبررها، وسيظل التاريخ يعيد نفسه بأسماء وألوان مختلفة.

 

■إلى صانع القرار، إن الحسم الحقيقي يبدأ بفهم عميق لجذور الأزمة، والاستثمار في الحوار والتنمية كطريق وحيد لإنقاذ السودان من دوامة الصراع.

 

■رسالة إلى المواطن: التغيير يبدأ منك:

أنت لست متفرجًا في مسرح التاريخ، بل بوصلة تحدد اتجاه الوطن.

لا تنتظر التغيير من الأعلى فقط، بل كن جزءًا من الحلول: بالفهم العميق، المشاركة الفاعلة، والعمل المستمر.

التغيير الحقيقي يبدأ منك، في البيت، في الشارع، في كل تجمع، وفي كل قرار تختاره.

‫شاهد أيضًا‬

مسارات د.نجلاء حسين المكابرابي  انتاج الفكرة الاقتصادية 

دائما مانهتم بمتابعة الحداثة والتطوير في كافة انحاء العالم ، لكي نساهم في بناء السودان الج…