‫الرئيسية‬ مقالات (حكاوي) من كريمي والبركل عادل عسوم الحكاية الثامنة
مقالات - نوفمبر 14, 2024

(حكاوي) من كريمي والبركل عادل عسوم الحكاية الثامنة

(حكاوي) من كريمي والبركل  عادل عسوم  الحكاية الثامنة

21/8

معلوم أن “حكاية” تُجمع جمع تكسير على “حَكايا”، وتُجمع جمع مؤنث سالم على “حكايات”، لكنني آثرت تسمية هذه السلسلة ب”حكاوي” ليتاسب الاسم مع اللهجة التي كتبتها بها وهي لهجة أهلي الشايقية.

وهذه الحكايات حقيقية،

وكلها مشاهد علقت بالذاكرة خلال الطفولة والصبا، وقد عمدت إلى تغيير بعض الأسماء وبعض التفاصيل بما يستلزمه النشر.

مسرح هذه الحكايات كريمة والبركل وماحولهما من القرى على امتداد منحنى النيل، والعنوان مقصود لذاته، لكون مفردة كريمي بإمالتها لها وحيها الذي لاتخطئه الأذهان.

عنوان الحكاية الثامنة:

*حلاوة الإيمان وحلاوة نعناع*

 

 

أيامها كنت ابتدارات المرحلة الابتداية، يافعٌ ترسخُ في ذهنه الكلمات والتوصيفات…

وصدق من قال:

العلم في الصغر كالنقش في الحجر…

فقد بقيت لفظة (حلاوة الأيمان) تأتلق في خاطري بذات الجمال الذي تلقيتها به من فم جدي محمد الحسن حاجنور رحمه الله وأنا اليافع حينها…

لن أنس يوم قلت له:

-ياجِدّي، أنا ماشي أشتري حلاوة…

ما كان منه الاّ أن حملني بين يديه وقال لي بفصحاه التي اعتادها:

-يابني، أسأل الله أن يرزقك حلاوة الأيمان…

فرسخ توصيف حلاوة الايمان في وجداني…

ثم سألني:

-أيُّ حلاوة تحب ياعادل؟

فقلت:

-حلاوة لكّوم؟

قال لي والإبتسامة تكسو وجهه الوضئ:

-لا لا ياابني، حلاوة الايمان أحلى منها بكثيييييييييير

ومدّ الياء مدّا،

ثم انشغل عني بضيوف أتوه،

وبقيت افكر في كُنْهِ حلاوة الايمان حالي كحال ابراهيم عليه السلام، إذ رأى كوكبا فقال هذا ربي…

وظللت أسابيع أقلب بصري ويدي بين المتاح من انواع الحلوى، وكلما ركنت إلى نوع منها وأخالها حلاوة الايمان يشير لي جدي بسبابته باسما بأن لا، ليست هي!

وظللت على ذلك إلى أن جاءه يوما أخوه محجوب حاجنور (والد المرحوم الشيخ أحمد محجوب حاجنور) من نوري، وجدي محجوب صاحب تجارة مابين كوستي والقضارف ونوري، اعتاد زيارة جدي محمد الحسن كل عام فيهديه (مقطعي قماش) من البوبلين والدبلان…

وخلال زيارته رأيت مع الأقمشة عددا من صناديق (حلاوة نعناع)…

يااااااه

وابتسمت ابتسامة نيوتن عندما سقطت التفاحة فاهتدى إلى قانون الجاذبية (كما يقولون)، وتذكرت حينها اعتياد جدي تقديم هذا النوع من الحلوى لضيوفه…

فأخذت منها واحدة ووضعتها في فمي…

يااااه

لكأني بطعم الجنة يجتاحني…

فهتفت هتفاف منتصر:

وجدتها وجدتها وجدتها…

وقلت لنفسي بثقة لاتتزعزع:

دي ياها حلاوة الايمان،

وأسرعت مسابقا ابن خالتي الذي يكبرني لملئ أباريق الوضوء حتى يتسني لي إخبار جدي بمعرفتي لحلاوة الايمان…

لكن، فاجأني رده بسبابته المُلوِّحَة بأن لا، ودون ذلك ابتسامته العريضة…

وتمر الأيام، فإذا بضيف عزيز يزور جدي…

كم شكّل ذاك الضيف سوحا من وجداني،

دخل الضيف يحمل على كتفه شنطة هاندباق زرقاء، نحيل مربوع القامة، ووجه تكسوه وضاءة لاتخطئها العين، انه القارئ المرحوم الشيخ صديق أحمد حمدون…

أمضى الرجل في دار جدي قرابة الأسبوعين، وكنت أسمعهما يتحادثان ويتلوان القرآن جل اليوم وطرفا من المساء، كنت أسمعهما يتحدثان عن (الورشة)…

والورشة كلمة معتادة لأهل البركل وكريمة، وتعني (ورشة حوض النقل النهري) التي يعمل فيها العديد من أبناء المنطقة، لكن تبين لي بعد ذلك أنهما كانا يعنيان (وَرْش) صاحب القراءات المعروف، وأن الشيخ صديق أحمد حمدوك جاء إلى جدي ليتدارس معه قراءة نادرة للقرآن منسوبة إلى ورش،

وقصتي مع الشيح صديق احمد حمدون بدأت منذ أن صلى بالناس صلاة المغرب، قدمه جدي ليصلي فشرع يقرأ من بعد الفاتحة آيات من سورة الأنفال ابتدرها بهذه الآية:

{ياأيها الذين آمنوا استجيبو لله وللرسول اذا دعاكم لمايحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه اليه تحشرون}.

ثم ختمها بالآية الكريمة:

{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}.

قرأها بصوته الندي العميق، وأسلوبه المتفرد في التلاوة، وكم للفظ الجلالة وقعه الآسر في القلوب عندما من فم الشيخ صديق أحمد حمدون يا أحباب، فما بالكم بقلبي الصغير حينها!…

واعتاد الشيخ صديق قراءة ذات الآيات في كل صلاة مغرب جل فترة استضافته، فإذا بي أحفظها عن ظهر قلب…

وقبيل سفره، جئت الى جدي وقلت له بأنني أود تسميع بعض الآيات، فتهلل وجه جدي، وشرعت أتلو، فدهش جدي والضيف لاجادتي تقليد صوت وأسلوب تلاوة الشيخ صديق أحمد حمدون،

ابتسم الرجل وربت على راسي، وكذلك فعل جدي، ثم قال له جدي ضاحكا:

ابننا عادل يبحث هذه الأيام عن حلاوة الإيمان، فقال الشيخ صديق:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ”ثلاثٌ مَنْ كُنَّ فيه وجد بهنَّ حلاوةَ الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحـبَّ إليه مما سواهما، وأن يُحبَ المرءَ لا يُحبُه إلا لله، وأن يكره أن يعودَ في الكفر بعد إذ أنقذَهُ الله منه كما يكـره أن يقذَف في النار”.

ورددا معا الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم التفت جدي وقال لي لماذا لم تصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وانت ادتسمع اسمه الشريف ياعادل؟!

الحق أقول كنت مأخوذا بهذا الحديث الشريف، ما ابهاه من حديث يا أحباب!…

اللهم أغفر لهما وارحمهما وأفتح لهما في مرقديهما ابوابا من الجنة لاتسد.

قلت لنفسي، كيف لايكون الايمان حلوا وبنيانه مؤسس على الحب!!!

والحب أسمى العواطف والمشاعر في وجدان كل الخلائق،

إنه رديف الرحمة…

ورفيق الصدق…

وصفيّ الهدوء والسكينة…

والأسلام بواقعيته اعترف بالحب بكونه فطرة متأصلة في كيان الأنسان ووجدانه …

أقرأوا ياأحباب قول الله جل وعلا {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} التوبه الآية 20

يقول عبدالله علوان في كتابه القيم الأسلام والحب:

(الحب شعور نفسي، واحساس قلبي، وانبعاث وجداني ينجذب به قلب المحب تجاه محبوبه بحماسة وعاطفة وبشر، والحب بهذا المعني يكون من المشاعر الفطرية المتأصلة في كيان الأنسان، لا انفكاك منه ولا استغناء، وهو قابل في كثير من الأحيان لتحكم الأراده فيه إلى ما هو اسمي وأفضل).

انتهى قول الدكتور…

ولعلي أقول:

لقد خلق الله القلوب مهيأة للحب، ثم وضع لنا منهجا ومراتب وأولويات للحب، وأبان لنا بأن الذي لايؤسس لهذه الأولويات والمراتب في قلبه، تائه وهالك لا محالة،

أقرأوا قول الخالق جل وعلا:

{قل ان كان اباؤكم وابناؤكم وأخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب اليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتي ياتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين} 24 التوبه.

إن حب الله تعالى هو أقصاها وأعلاها رتبة…

وحب الله تعالى هو حب الطاعة والانقياد لكل ما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية التزاما بالمنهج وسيرا على هداه …

ويقول نبينا صلى الله عليه وسلم : (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) رواه الطبراني والبيهقي.

ويقول الله تعالى {ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله} البقرة 165

فلا يستقيم الحب مع المعصية،

تقول رابعة العدوية رحمها الله:

تعصي الإله وأنت تظهر حبه

هذا لعمري في الفعال بديع

لو كان حبك صادقاً لأطعته

إن المحب لمن يحب مطيعٌ

ويقترن حب الله بحب رسولنا محمد صلوات الله وسلامه عليه، أذ طلب الله تعالى من نبيه أن يقول للمؤمنين [قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم} آل عمران31

فحبّ الله ورسوله يكون واجبا وكذلك ما يندرج تحت ذلك من الحبّ في الله ولله، ومن أعظم أنواع الحب من بعد ذلك الحب في الله، أي أن يحب الإنسان غيره لكونه شخص صالح و مؤمن، وليس له في حبه منفعة ولا شهوة ولا قرابة، ومن غير أن يناله منه أي نفع…

فمن أسس ذلك في وجدانه وجد حلاوة الأيمان.

ثم يأتي من بعد ذلك ما يكون بمقتضى الطبيعة والجبلة كحبّ الوالدين والزوجة والأولاد والعشيرة والوطن ونحو ذلك، وهذا النوع له حدّ متى ما تجاوزه كان محرّماً…

ومثال ذلك قول الشاعر أحمد شوقي مخاطباً وطنه:

ويا وطني لقيتك بعد يـأس كأني قد لقيت بك الشبابا

أدير إليك قبل البيت وجهي إذا فهت الشهادة والمتابا.

الشاعر هنا جعل من الوطن قبلته الأولى التي يدير إليها وجهه!.

ومن الشعراء من سجد لحبيبته عندما لم يؤسس لمراتب الحب في قلبه!…

والحب يمهد الطريق إلى الأيمان، والأيمان بدوره يقود الى الجنة…

روى مسلم عن أبي هريرةَ قال: قال رسول الله “و الذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابّوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم”.

اللهم لاتجعل الدنيا أكبر همنا

ولا مبلغ علمنا، وأشرِب يارب قلوبنا بحبك وحب نبيك وحب من تحب،

إنك ياربنا وليّ ذلك والقادر عليه…

وإلى اللقاء بحول الله وتوفيقه في الحكاية التاسعة.

adilassoom@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

السودان يدين الهجوم على قطر 

اصدرت وزارة الخارجية بيانا صحفيا ادانت فيه الهجوم على دولة قطر الشقبقة وفيما يلي نص البيان…