الكلور في السودان: اتهام بلا دليل، وورقة ضغط في لحظة مفصلية د. عبد الناصر سلم حامد كبير الباحثين ومدير برنامج شرق إفريقيا والسودان – فوكس

باحث في إدارة الأزمات ومكافحة الإرهاب
في مايو 2025، وجهت وزارة الخارجية الأمريكية اتهامًا صريحًا للجيش السوداني باستخدام غاز الكلور ضد قوات الدعم السريع. الاتهام كان ثقيلًا في مضمونه، لكنه فارغ من حيث الدليل. لم يظهر تقرير طبي، لم تُجمع عينة، لم تُعرض صورة واحدة، ولم تُرسل فرق تقصي. مجرد تصريح، منسوب لمصادر “أمنية”، تحوّل إلى خبر رئيسي في الإعلام الدولي وكأنه حقيقة مثبتة. هذه ليست سابقة في السياسة الدولية، لكنها تظل خطيرة في توقيتها ومضمونها.
غاز الكلور ليس مادة نادرة أو سرية، بل يُنتج ويُستخدم يوميًا في قطاعي المياه والصناعة. لكن استخدامه كسلاح كيميائي يُحظر تمامًا بموجب اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية التي انضم لها السودان منذ عام 1999. عند تسليحه، يُحدث الكلور أعراضًا لا تخطئها العين: سعال خانق، حروق في الأغشية المخاطية، ضيق تنفس حاد، وقد يؤدي إلى استسقاء رئوي قاتل. هذه التأثيرات تظهر خلال دقائق، وتنتشر بسرعة بين المصابين، ولا يمكن إخفاؤها، لا عن الأطباء، ولا عن السكان، ولا عن الكاميرات.
ورغم كل ذلك، لم تظهر أي حالة مشابهة. لا تقارير من المستشفيات الميدانية، لا تسجيلات من الضحايا، لا شهود من سكان المناطق المتأثرة، ولا حتى صور الأقمار الصناعية أو مقاطع مصورة من جبهات القتال. الغياب التام للأدلة في واقعة من هذا النوع، وفي منطقة تخضع لتغطية إعلامية مستمرة، ليس مجرد فراغ عارض، بل مؤشر على هشاشة الرواية من الأساس.
الكشف عن الكلور تقنيًا لا يحتاج إلى لجان أممية معقدة. أجهزة محمولة بسيطة يمكنها رصد آثاره في التربة أو الهواء خلال ساعات. ومع ذلك، لم يُعلن عن أي تحليل مخبري، ولم تتحرك أي جهة مستقلة، لا من الأمم المتحدة، ولا من منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، ولا حتى من المنظمات الحقوقية الكبرى التي اعتادت التصدي لمثل هذه القضايا. الصمت هنا ليس حيادًا… بل نفاد مبررات.
ثم إنّ الاتهام يتهاوى أمام التحليل العسكري. استخدام غاز الكلور في بيئة مفتوحة مثل دارفور هو خيار فاشل تكتيكيًا. الغاز يتبخر بسرعة، تشتته الرياح، ويصعب توجيهه بدقة، مما يجعله غير فعّال في أرض مكشوفة. بل قد يهدد القوات المُطلِقة له أكثر من العدو. في المقابل، وُثّقت حالات استخدام الكلور في سوريا ضمن بيئات حضرية مغلقة أو أنفاق، حيث الاحتباس يمنح الغاز قدرة قتل أعلى. الفارق هنا ليس في المادة، بل في البيئة العسكرية والبنية الهندسية. السودان لا يمتلك هذه الظروف، ولا هذا النوع من البنية أو التقنية.
من زاوية القدرات، فإن الجيش السوداني لا يُعرف تاريخيًا بامتلاك أسلحة دمار شامل، ولا تشير تقارير منظمة حظر الأسلحة الكيميائية إلى أي برنامج كيميائي نشط داخل البلاد. السودان خضع لزيارات فنية، ولم تُسجّل عليه خروقات في هذا الجانب. وقد أكد خبير الأسلحة الكيميائية الألماني ماركوس رينر في تصريحات لموقع DW مؤخرًا: “لا توجد مؤشرات تقنية تُثبت استخدام الكلور في السودان، وإن وُجدت، لكانت ظهرت من خلال اختبارات بيئية يمكن إجراؤها بسهولة.”
اللافت أيضًا، أن توقيت الاتهام يتزامن مع متغيرات عسكرية وسياسية مهمة في السودان. الجيش يحقق تقدمًا ضد الدعم السريع على عدة جبهات، والحكومة تسعى لاستعادة موقعها في الخارطة الدبلوماسية الدولية بعد سنوات من الحظر والعقوبات. الاتهام في هذا السياق يبدو أقرب إلى محاولة تشويش، أو إرسال رسالة ضغط ضمن موازين قوى إقليمية معقدة تشترك فيها أطراف مثل الإمارات، تركيا، روسيا، والسعودية.
في منتصف كل ذلك، يبرز سؤال حاسم: لو كان الجيش السوداني قد استخدم فعلًا غاز الكلور، فلماذا لم يُشاهَد شيء؟ لماذا لم تظهر ضحية واحدة، أو أثر على الأرض، أو تحليل من جهة محايدة؟ الصمت ليس دليلًا، لكنه في هذه الحالة، يشبه كثيرًا الاعتراف بسقوط الحُجة.
وهنا بيت القصيد: الاتهام لا يُعامل على أنه خبر، بل سلاح سياسي بحد ذاته. غاز الكلور لم يُشاهد، لم يُحلل، لم يُبلغ عنه طبيًا. لكن أثر الاتهام قائم: تشويش على المشهد، عرقلة للتقدم، وفتح باب لعقوبات جديدة. هذه ليست قضية تقنية بحتة، بل أداة ناعمة لإعادة تشكيل مواقف اللاعبين.
وفي المقابل، الحكومة السودانية لم تكتفِ بالرد السياسي، بل أعلنت عن تشكيل لجنة وطنية مستقلة للتحقيق، تضم خبراء طبيين وعسكريين، وتحت إشراف قضائي، مع فتح المجال أمام مراقبين دوليين، بما في ذلك منظمة حظر الأسلحة الكيميائية. هذه الخطوة، رغم أنها جاءت بعد صمت نسبي، إلا أنها تشكل تحركًا مسؤولًا يعيد النقاش إلى مربع الحقائق لا الانطباعات.
السؤال الآن: من سيتحمل مسؤولية التهمة إذا لم تُثبت؟ هل سيتعامل المجتمع الدولي مع الأثر المدمر لاتهام بلا دليل؟ هل سيبقى الإعلام في موقع الترويج بدلًا من التقصي؟ أم أن السودان، كما كثير من دول الجنوب، سيُحاكم مرة أخرى بناء على الشك، لا الدليل؟
العدالة لا تُبنى على النوايا، ولا على التصريحات. والاتهامات التي تمس سيادة الدول وسمعة جيوشها لا تُمرر في البيانات، بل تُفحص بالعلم، وتُثبت بالبراهين. في عالم اليوم، مجرد الحديث عن أسلحة محظورة يكفي لخلق أثر سياسي دولي، حتى وإن لم يثبت شيء على الأرض. وهذه هي المعضلة الأخلاقية التي على العالم مواجهتها: كيف نحاسب المتهم… حين لا يملك أحد دليلًا؟
الحقيقة ليست شعورًا. وليست بيانًا صحفيًا. إنها شيء مادي، يمكن قياسه، وتحليله، والتأكد منه. وحتى الآن، لا توجد أي حقيقة تؤكد أن الكلور استُخدم في السودان، ولا حتى ما يقاربها من أدلة.
والتاريخ، لا يُسجل التصريحات. بل ما تم إثباته بالدليل والقرائن القاطعة
ابشر الماحي الصائم يكتب خطى كتبت علينا
اذا منحت (حقيبة وزارية) فأنت يومئذ قد منحت ،، سلطة ،، وإذا كانت هذه الحقيبة هي وزارة ايراد…