أصل_القضية هندسة الحرب في زمن ما بعد السياسة محمد أحمد أبوبكر باحث في العلاقات الدولية والسياسة الخارجية
في زمنٍ مُفكك الاتجاهات، لم تعد الحرب ساحةً ترتطم فيها الدبابات، أو تتعالى فيها طبول الجيوش.
لقد تخلّت عن ثوبها الحديدي، وارتدت قميصًا ناعمًا من أفكار، وصور، وانفعالات مصمّمة بإتقان جراحي.
لم تعد تُخاض بالأسلحة الثقيلة بل بالأسئلة الثقيلة.
ولم تعد تبحث عن نصرٍ في الأرض بل عن نفوذٍ في العقول.
السياسة تولد من رحم الرصاص
ما بعد كلاوزفيتز، تغيّرت المعادلة: لم تعد الحرب امتدادًا للسياسة، بل غدت حاضنةً للسياسات المتوحشة، تولد من نزيف الفوضى لا من مداولات البرلمانات.
الحرب اليوم تقول بصوتٍ ساخر: “أنا السياسة. أنا البداية والنهاية!”
فلم يعد السياسي هو من يحدد متى تبدأ الحرب، بل الحرب ذاتها صارت مَن يقرّر مَن يصل إلى السلطة، ومتى تُغتال الدولة في وضح النهار وتُستبدل بأخرى تلبس قناع “الثورة”.
إننا نعيش زمنًا تكتب فيه الفوضى عقود الحكم، وتُنسج فيه خريطة المستقبل بخيوط اللايقين.
من يقاتل.. وأين الجيوش؟
في ساحات هذا العصر، الجيوش التي نعرفها تتوارى، وتظهر بدلاً عنها جيوشٌ من نوع آخر:
ميليشيات تحمل الكلاشينكوف بيد، وتحمل الموبايل باليد الأخرى.
ذباب إلكتروني، مؤثرون مأجورون، جيوش رقمية لا ترتدي الزي الرسمي، لكنها ترتدي الحقيقة المزيّفة.
الميادين لم تعد تُرسم بالخرائط، بل تُدار من خلف الشاشات.
و”العدو” لم يعد على الضفة الأخرى، بل في داخلك: يُشكّكك في وطنك، يُربكك في ثوابتك، يُخدر إحساسك بالخطر.
إنه عصر الهندسة الإدراكية.
يقاس فيه النصر بعدد مرات الشك، لا بعدد الطلقات.
ويُحتفل فيه بالهزيمة التي تبدو كأنها وعي، وبالانتصار الذي يُباع في الأسواق على هيئة “ترند”.
السودان.. مرآة الصراع الجديد
السودان ليس مجرد رقعة تُتنازع حدودها، بل رمز جيواستراتيجي يُعاد هندسته.
إنه جسر يربط عمق إفريقيا بضميرها العربي، وموردٌ تغري ثرواته الطامعين بإشعال ألف جبهة في وقت واحد.
في حرب الكرامة، لم يكن الميدان فقط هو القيادة العامة أو مطار الخرطوم، بل المعركة الحقيقية كانت على من يحتكر الرواية، من يحسم الوجدان، من يُخرج خصمه من ذاكرة الناس لا من أرض الواقع فقط.
لقد رأينا كيف تغدو تغريدة سلاحًا، ومقطع فيديو رأس حربة.
رأينا إعلامًا ينسف الجبهات قبل أن يصلها العدو، و”كلمة” تنسف معنويات كتائب كاملة.
الإعلام.. السلطة الرابعة الغائبة
في هذا السياق الجديد، لم يعد جائزًا أن يبقى الإعلام مجرد طبّالٍ يُعيد صدى الشعارات الجوفاء.
إن المعركة الآن على الإدراك، وعلى من يشكل الرؤية الوطنية.
فمن واجب الكتّاب والإعلاميين اليوم أن يرتقوا إلى مقام السلطة الرابعة الحقيقية:
أن يتركوا مقاعد التطبيل،
ويهبّوا لساحات التحقيق الجريء،
أن يصوغوا تقارير لا تبرر، بل تفسّر،
أن يسلّطوا الضوء لا على الخنادق فقط، بل على مناطق الظلال والفساد والتزييف.
السودان بحاجة إلى إعلام يُقاتل لأجل الوعي، لا لأجل الواجهة.
إعلام يرفع سقف الأسئلة، لا يرفع صور القادة.
إعلام يُجيد الإنذار المبكر، لا البكاء المتأخر.
استراتيجية “الجسر والمورد”: معركة المعنى قبل الميدان
وفق رؤية الجسر والمورد، فإن الحرب في السودان لا يجب أن تُفهم بوصفها حرب استعادة جغرافيا فقط، بل كمعركة استعادة رمزية.
فمن يملك المورد يجب أن يملك الرواية،
ومن يسعى لبناء الجسر، عليه أن يخلع القيود الذهنية التي كبّلت الوعي الجمعي.
النصر لم يعد يُقاس بالأرض المُحررة، بل بالوعي المحصّن.
وليس بمن يُنصّب واليًا، بل بمن يُعيد تشكيل المعنى في وجدان الأمة.
أصل القضية،،،
يا أهل السودان..
لسنا أمام حرب تقليدية، بل أمام مفترق حضاري.
إما أن نكون دولة تصنع المعنى، أو مساحة يصنعها الآخرون كيف شاؤوا.
ارفعوا الوعي كما ترفعون السلاح،
وسددوا الكلمة كما تسددون الرصاص،
واحرسوا الرواية كما تحرسون التراب.
ففي زمن الحرب الإدراكية، المنتصر ليس من يُخيف خصمه، بل من يُلهم شعبه.
ولا غالب اليوم.. إلا من امتلك الذاكرة، وصاغ الرسالة، واحتفظ بالمورد وبنى الجسر.
ابشر الماحي الصائم يكتب خطى كتبت علينا
اذا منحت (حقيبة وزارية) فأنت يومئذ قد منحت ،، سلطة ،، وإذا كانت هذه الحقيبة هي وزارة ايراد…