أصل_القضية محمد أحمد أبوبكر باحث بمركز الخبراء العرب “غياب المسرح السوداني: بين الانكسار الجمعي والتغييب البنيوي”
في زحمة الدخان، والخراب، وانهيار المدن، ينسى الناس كثيرًا… ويغيب عن الذاكرة شيء ثمين اسمه المسرح.
تنسحب الأضواء، تُطوى الستائر، يُهاجر المبدعون، وتُصبح الأسئلة الكبيرة بلا منصة تُطرح عليها.
لكن… هل غاب المسرح لأن البلاد في حرب؟ أم لأن الحرب كشفت أن المسرح كان مغيّبًا أصلًا؟
هذا المقال ليس مرثية لفن، بل محاولة لإنعاش ذاكرة وطن.
رحلة تحليلية في عمق الصمت، بحثًا عن تلك “الخشبة” التي كانت ذات يوم مرآة مجتمع، وصوتًا للضمير، ومسرحًا للكرامة.
في زمنٍ تتحدث فيه البنادق، نحاول أن نسأل:
أين ذهب الذين اعتادوا أن يقولوا الحقيقة وقوفًا… حتى لو صفق لهم نصف الجمهور فقط؟
أولاً: المسرح… مرآة منكسرة في لحظة الانفجار:
حين دكّت الحرب قلب العاصمة، وانهارت الحياة كما نعرفها، لم يكن غياب المسرح مجرد غياب ظرفي أو مادي، بل كان مرآة لانكسار أعمق… انكسار في البنية، في الوعي، وفي الإرادة الجمعية.
فالمسرح لا يزدهر في الفراغ، بل يحتاج إلى استقرار نسبي، ونخبة فنية تؤمن بالرسالة، ودولة تعترف بالثقافة كجزء من أمنها الوطني. ولكن كل هذا غاب دفعة واحدة، وكأن هناك من أراد للمسرح أن يموت بالصمت لا بالرصاص.
ثانيًا: تغييب أم غياب؟ الفرق بين أن لا تكون، وأن تُجبر على الاختفاء
السؤال الجوهري ليس: “أين المسرح؟” بل:
> “لماذا أُبعد المسرح؟ ولمن أزعج حضوره؟”
تحليلنا يكشف ثلاثة مستويات من “التغييـب” المقصود:
١. التغييب السياسي:
لأن المسرح ليس مجرد ترف فني، بل “منصة مساءلة”. والسلطة المرتجفة تكره المسرح، لأنه لا يُصفق بل يُفكك. خشبة المسرح تسأل… والسياسة السودانية لا تطيق الأسئلة!
٢. التغييب الأمني والنفسي:
بعد الكارثة، أصبحت البلاد طاردة للخيال. المسرحيون الآن إما نازحون، أو مغتربون، أو مرعوبون. وبعضهم يكتب نصوصًا من ذهب، ولا أحد يقرأ.
٣. التغييب المؤسساتي:
انهارت البنية التحتية، غابت النقابات، غاب التمويل، وأُغلقت المسارح. حتى لو أراد أحدهم أن يُخرج مسرحية، فأين المنصة؟ وأمام من؟
لكن خلف كل هذا التغييـب، تبرز مفارقة قاسية:
> النخب السياسية السودانية لم تكن تجهل التمثيل… بل أتقنته!
لكنها أتقنت “تمثيل الخيانة”، و”أداء مشاهد بيع الوطن”، فكانت النتيجة موت المسرح الحقيقي، وولادة مسرح ساخر من الأخلاق والتاريخ والكرامة.
ثالثًا: الدراما السودانية… من نبض المجتمع إلى ذكريات إذاعية
في زمن سابق (١٩٨٠–٢٠١٣)، كانت الدراما السودانية تتنفس من قلب الشارع، وتقول ما لا يُقال عبر أعمال خالدة كـ خطوبة سهير، الدهباية، وبيت الجالوص، عنبر المجنونات، أقمار الضواحي،…
أما اليوم، فقد أصبحت مجرد ترددات في الأرشيف، لا تُورث ولا تُحدّث.
لماذا اندثرت؟
* غياب مشروع وطني درامي يعبر عن وجدان ما بعد الكرامة.
* اعتزال الكبار أو هروبهم من وجع الوطن.
* سيطرة “الترند” والفيديو القصير على الذائقة.
* غياب السوق، وضعف الإنتاج، وتآكل مؤسسات الدعم.
رابعًا: المسرحيون… محاصرون لا مختبئون
المسرحي السوداني اليوم يعيش مفارقة مؤلمة:
* نازح من الخشبة إلى هامش الحياة.
* مرهق من صراعات البقاء.
* صامت خوفًا من تصنيف أو تنكيل.
* مبدع بلا صوت… يكتب للفراغ.
> “أن تمتلك موهبة بلا منصة، كأن تملك صرخة بلا فم.”
خامسًا: التفسير السوسيولوجي لغياب المسرح:
الحرب لا تقتل فقط الأجساد، بل أيضًا الرموز.
والمسرح – كفن جماعي – يتطلب مجتمعًا يؤمن بالتعبير.
ما حدث هو التالي:
* تفشي الصدمة الجمعية.
* تضخم خطاب الشك والتخوين.
* انعدام الثقة بين الجمهور والمبدع.
وهكذا، أصبح المسرحي هو ذاته جزءًا من جمهور مكسور، لا يثق في أحد، ولا يؤمن بشيء.
سادسًا: الجسر والمورد – خارطة طريق لإحياء المسرح الوطني:
ترى استراتيجية الجسر والمورد أن استعادة المسرح ليست رفاهية ثقافية، بل ضرورة وجودية لبناء الوطن. وتُقترح أربعة مسارات:
١. إطلاق صندوق الذاكرة الوطنية:
لدعم الأعمال التي توثق لبطولات وتراجيديات حرب الكرامة، وتُعيد للمسرح دوره كشاهد ومؤرخ.
٢. تكوين “نقابة مسرحيي ما بعد الكرامة”:
كيان مستقل يضمن الإنتاج، الحقوق، والحماية الإبداعية.
٣. إدماج المسرح في مسارات العدالة الانتقالية:
كما فعلت دول مثل رواندا وكولومبيا، باستخدام مسرح المصالحة ومسرح الشهادة.
٤. إعادة توزيع المسارح حسب خارطة النزوح والمقاومة:
كي لا تبقى الخشبة أسيرة العاصمة، بل تنتشر حيث الألم والأمل.
أصل القضية: من مسرح الغياب إلى مشهد الصحو الوطني
نعم، يمكن أن يعود المسرح…
لكننا نحذر – من الآن – أن يُختطف كما اختُطفت كل الأحلام.
نحذر أن يتحول مشروع إحياء الأمل إلى مشهد من سيناريو آخر…
سيناريو كُتب في غرف النخبة، ومُثّل على جراح البسطاء، وبيعت تذاكره لمن لا يرون في الوطن إلا خشبةً بلا جمهور.
> السودان لا يحتمل مزيدًا من التمثيل على آلامه.
السودان لا يريد نصًا عن “التعافي”، بل واقعًا من الكرامة.
احذروا أن يُجعل من الأمل الموعود مجرد فقرة مرتجلة في مسرحية الوهم الوطني،
فالصامدون على خطوط النار لا يحتاجون إلى ديكور…
بل إلى معنى.
لأنهم يؤمنون، في قاع القلب، بأن:
> “السودان هبة الله لهم، لا لغيرهم.
لا يُكتب تاريخه إلا بمداد الحقيقة، ولا يُعرض مستقبله على خشبة الزيف.”
نقطة ضوء النسيج الإجتماعي ومحاولة رتق الفتق بقلم/ صلاح دندراوي
نعم قد تكون الحرب التي فرضت على السودان مؤلمة وآثارها كارثية لا سيما وأن العدو تجرد عن الع…