‫الرئيسية‬ مقالات غياب المشروع الوطني في السودان وأثره على الاستقرار السياسي والاجتماعي  عبدالمنان ابكرعمر
مقالات - ‫‫‫‏‫أسبوع واحد مضت‬

غياب المشروع الوطني في السودان وأثره على الاستقرار السياسي والاجتماعي  عبدالمنان ابكرعمر

منذ استقلال السودان في عام 1956 لم تتمكن النخب السياسية والعسكرية التي تعاقبت على الحكم من بلورة مشروع وطني جامع، يتوافق عليه السودانيون ويشكل إطاراً مرجعياً للدولة يحدد رؤيتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية ويضع أهدافها الاستراتيجية على الصعيدين الداخلي والخارجي. ظل السودان يعاني من غياب هذا التصور الكلي ما جعل كل نظام يطرح مشروعاً مجتزأ يخدم فئة أو أيديولوجيا معينة دون أن يتأسس على عقد اجتماعي شامل يعترف بالتنوع ويؤطره في صيغة وطنية جامعة.

يُعد السودان واحداً من أكثر الدول تنوعاً في إفريقيا والعالم العربي من حيث الأعراق والثقافات واللغات والمناطق الجغرافية. كما أنه يشغل موقعاً جيوسياسياً بالغ الأهمية إذ يشكل جسراً استراتيجياً بين العالمين العربي والإفريقي، وله حدود طويلة مع دول عربية وأفريقية ما يجعله مؤهلاً للعب أدوار إقليمية محورية في مجالات الاقتصاد والأمن والسياسة والثقافة.

لكن هذا التنوع الجغرافي والثقافي بدلاً من أن يُستثمر كمصدر للقوة والتكامل جرى تهميشه أو التعامل معه كأزمة ينبغي احتواؤها بالقوة. وقد أدى غياب مشروع وطني يعترف بهذا التعدد ويوظفه إلى تعميق الانقسامات وإضعاف الوازع الوطني وانكفاء المكونات المجتمعية على هوياتها الفرعية الإثنية أو الجهوية أو الثقافية.

إن غياب الرؤية الوطنية الجامعة أدى إلى تراكم أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية عبر العقود وأسهم بشكل مباشر في إشعال النزاعات والحروب الأهلية التي عصفت بكثير من مناطق السودان خاصة في الجنوب (سابقاً) ودارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق والشرق. وقد انعكس هذا الواقع في انهيار الثقة بين المركز والأطراف. انتشار الحروب الأهلية والنزاعات المسلحة. تشريد ملايين المواطنين داخلياً وخارجياً. تعطل التنمية وتفشي الفقر وسوء الخدمات. تفاقم الفساد والمحسوبية وتآكل مؤسسات الدولة. تكرار الانقلابات العسكرية وضعف الانتقال الديمقراطي.

تتوزع مسؤولية هذا الإخفاق على مختلف النخب التي حكمت السودان سواء كانت حزبية مدنية، عقائدية (إسلامية أو يسارية) أو أنظمة عسكرية وشمولية. إذ لم تنجح أي من هذه القوى في إدارة التنوع بشكل عادل أو خلق مشروع وطني يتجاوز الحسابات الضيقة. كما أن معظم هذه النخب تعاملت مع الدولة كغنيمة وليست كمؤسسة لخدمة الجميع مما عمّق الاستقطاب والتهميش وأفضى إلى تمردات متتالية.

إن معالجة الأزمة السودانية المزمنة تتطلب أولاً الاعتراف بجذورها التاريخية والسياسية العميقة، ثم السعي إلى حلول شاملة تتجاوز المسكنات والمبادرات الجزئية. ويمكن تلخيص أهم الحلول الناجعة في:

1. صياغة مشروع وطني جامع يرتكز على عقد اجتماعي جديد يعترف بالتنوع ويضع أسس المواطنة المتساوية ويؤسس لنظام حكم ديمقراطي تعددي.

2. إصلاح مؤسسات الدولة ببنائها على الكفاءة والنزاهة والعدالة وتحريرها من الهيمنة الحزبية أو القبلية وضمان استقلال القضاء ومؤسسات الرقابة.

3. العدالة الانتقالية والمصالحة عبر معالجة انتهاكات الماضي وإنصاف الضحايا وبناء ذاكرة جماعية قائمة على الاعتراف والمساءلة.

4. اللامركزية العادلة بتطبيق نظام حكم اتحادي (فيدرالي) حقيقي يمنح الأقاليم سلطات تشريعية وتنفيذية ومالية ويعيد التوازن بين المركز والأطراف.

5. التكامل الإقليمي بالاستفادة من موقع السودان لبناء شراكات استراتيجية مع دول الجوار تقوم على المصالح الاقتصادية والتعاون الأمني والثقافي.

6. بناء اقتصاد إنتاجي يعيد توجيه الموارد نحو الزراعة والصناعة ويحرر الاقتصاد من التبعية والفساد ويعزز دور القطاع الخاص والمجتمع المدني.

7. إعادة بناء الهوية السودانية من خلال خطاب وطني جديد يروج لقيم التعدد والتسامح ويرسّخ الانتماء للسودان كمظلة جامعة لا ككيان فوقي مفروض.

لن يخرج السودان من أزماته الراهنة إلا بمراجعة جذرية لمجمل التجربة السياسية منذ الاستقلال واستئناف حوار وطني حقيقي غير مشروط يشارك فيه الجميع على قاعدة الاعتراف والمواطنة والعدالة. فالتنوع في السودان ليس نقمة بل يمكن أن يكون مصدر قوة هائلة إذا ما أُدير برؤية وطنية شاملة تحقق التوازن بين مكونات البلاد وتوجهها نحو مستقبل مشترك ينعم فيه الجميع بالسلام والكرامة والتنمية.

‫شاهد أيضًا‬

المفتش العام لقوات الدرع: لهذه الأسباب انضم كيكل للمليشيا مدني: د. طارق عبدالله- سفيان نورين

الاغبش: قواتنا قومية وفي انتظار الترتيبات الامنية مستعدين للمشاركة في عمليات الإعمار برؤية…