كيف تعثر المسار الديمقراطي في السودان د ياسر يوسف إبراهيم

إن كل تقييم منصف وقراءة موضوعية ستصل إلي أن الحرب التي تجري حاليا في السودان في عامها الثالث هي نتيجة طبيعية لفشل القوي المنوط بها قيادة الفترة الإنتقالية التي أعقبت سقوط النظام السابق في العام 2019 ، ففضلا عن التصريحات المباشرة التي صدرت من عدد من قيادات تحالف الحرية والتغيير صراحة بمضمون ( إما التوقيع علي الإتفاق الإطاري أو الحرب ) هناك عديد الشواهد الشاخصة التي تؤكد هذه الحقيقة ، لقد كانت الفترة الإنتقالية التي تم التواثق عليها في الوثيقة الدستورية بين المنظومة العسكرية وقوي الحرية والتغيير فرصة كبيرة لقيادة البلد نحو إستقرار يؤدي إلي المواصلة في مشروع بناء الدولة الوطنية الذي ظل متعثرا طوال فترات الحكم الوطني ، ولكن كان واضحا لكل ذي لب سليم أن الطريقة التي تتصرف بها قوي الحرية والتغيير من إزدراء للقانون وإهدار للحقوق الدستورية وسعي محموم لتفكيك الجيش الوطني وتمكين مليشيا الدعم السريع مع تشبث بالسلطة مهما كانت الأثمان ستنتهي إلي هذه النتيجة ..
وللإجابة علي سؤال هذا المقال وهولماذا فشل الإنتقال الديمقراطي في السودان نحتاج أن نعترف إبتداء بأن الذي جري ويجري في السودان ليس معزولا عن مجمل المشروع الدولي والإقليمي الذي جري تنفيذه في ليبيا واليمن وسوريا ، وسنعود لهذا العامل الخارجي المهم والذي ساهم في خروج عجلة التغيير عن مسارها الصحيح لتنزلق في متاهات العنف والحرب المدمرة ، ولكن واحدة من الأسباب الجوهرية التي أدت إلي فشل مشروع التحول الديمقراطي في السودان وفي غيره من بلدان ما سمي بالربيع العربي هو عدم الوعي الكافي بطبيعة الحراك الذي أدي ضمن عوامل أخري إلي سقوط الأنظمة القديمة ، فقد بالغت القوي التي قادت الإحتجاجات في تعظيم الذات ورفع سقف منجزها توهما بأن الذي جري هو ثورة حقيقية تضاهي الثورة الفرنسية إن لم تتفوق عليها ، فقد شاع في الأيام الأولي للتغيير في السودان أن ( ثورة ديسمبر المجيدة هي الأعظم في تاريخ البشرية ) ، هذه القراءة الخاطئة والتقييم الرغائبي قادا إلي نتائج كارثية أهمها توقف العقل عن التفكير عن مالذي يجب فعله بعد النجاح في إسقاط الحكومة السابقة ، لأن مجرد قيام الثورة لا يعني بلوغ النجاح ، وذلك هو المأزق الذي حذر منه كانط إذ يقول ( عن طريق الثورة يمكن أن نسقط إستبدادا فرديا أو أن نضع حدا لإضطهاد يقوم علي التعطش للنفوذ والثروة ، ولكنا لن نبلغ بها إصلاحا حقيقيا لنمط التفكير ، علي العكس من ذلك ستنتعش بسببها أحكام مسبقة جديدة علي غرار الأحكام القديمة لتشد إلي حبالها السواد الأعظم المفتقر إلي الفكر) ، والإصلاح كفعل متدرج هو ما افتقدته كل القوي التي ورثت الأنظمة القديمة ، وبدلا من ذلك مضت قوي الحرية والتغيير تحت نشوة الإنتصار الزائف تضخم من إنجازاتها الصغيرة وتأكل من رصيد الثقة الذي وفره لها الشارع السوداني ..
السبب الثاني الذي أدي بنا إلي هذه الحرب اللعينة هو القصور البنيوي فكريا وسياسيا عند جماعة الحرية والتغيير ، فالشاهد أن هذه القوي لم تكن تمتلك أي مشروع وطني للفترة الإنتقالية إلا مشروع حيازة السلطة والإحتفاظ بها كما قال عضو مجلس السيادة السابق محمد الفكي سليمان ( نحنا عاوزين السلطة وسنقاتلكم حتي نبعدكم منها ) وذلك دون أدني شعور بالحرج الأخلاقي لمن يفترض فيهم أنهم سلطة إنتقالية مهمتها قيادة البلد نحوالتحول الديمقراطي ، غير أن المأزق الأكبر من ذلك هو إنشغال التحالف بمعارك إنصرافية إستنزفت طاقته المحدودة في التفكير ، فخاض معركة مع القوات المسلحة التي يفترض أنها شريكته الأقوي في إقتسام السلطة ، ثم تصدع بنيان التحالف حين تفاقم الخلاف بينه وبين شركائه في حركات دارفور التي إلتحقت بالسلطة بعد التوقيع علي إتفاق جوبا ، وصار حلفاء الأمس أعداء يتبادلون الإتهامات علي الهواء الطلق ويسعي بعضهم لإضعاف الآخر ، فوقعوا في المحظور الذي حذر منه الترابي حين كان في تحالف قوي الإجماع الوطني الساعي حينها لإسقاط الإنقاذ ( وهذه سنة بلاد التحولات والثورات كلها ، تتحير شيئا ما عند التجاوز من التبشير إلي مرحلة التطبيق ، يتمادي الثوار خاصة بروح الصراع من فور ما يفاجئهم الإنتقال ، فيصوبون المشارسة المنقولة من عهد الثورة إلي أنفسهم ، إذ يهلك العدو المستهدف فينقلب بعضهم يهدف بعضا ) ..
السبب الثالث والرئيس في خروج مسار الإنتقال عن مساره الصحيح هو عدم إمتلاك الحكمة الكافية للتعامل مع الإرث القديم ، وعدم تقدير حجم التأثير الذي يمكن أن تحدثه القوي القديمة سلبا أو إيجابا ، لقد إندفعت قوي الحرية والتغيير تقودها روح إنتقامية إلي التشفي من رموز النظام القديم ، وأعلنت علي لسان قادتها أن شعارها تجاه كل العناصر القديمة هو ( سيصرخون ) وذلك ردا علي مبادرة البروفيسور إبراهيم غندور رئيس المؤتمر الوطني بأن حزبه سيكون ( معارضة مساندة ) للفترة الإنتقالية ..
أما السبب الرابع فهو التدخلات الخارجية التي أفسدت مسار الإنتقال وعمقت الإنقسامات بين المكونات الوطنية ، وعملت علي إستقطاب بعض الأطراف لتنفيذ أجندة لا علاقة لها بالمصالح الوطنية ولا تدعم التحول الديمقراطي ، وقد نشرت مجلة فورين بوليسي الأمريكية وصاحبة التأثير الكبير في سياسة الولات المتحدة أكثر من مقال وتحقيق تحمل الولايات المتحدة ما أسمته ( إحباط الآمال الديمقراطية في السودان ) ..
تعقيدات السودان ..
إذا كانت تلك الأسباب تعتبر عوامل مشتركة في البلدان العربية الشبيهة بالسودان من حيث وضع الإنتقال من نظام حكم إلي آخر فإن الوضع في السودان يفوقها جميعا من حيث التعقيد وحجم التحديات ، فقد كانت هشاشة الدولة تحتاج إلي عقلية وطنية تتعامل مع تلك التعقيدات بحكمة تعمل علي تغليب المصلحة الوطنية التي تبحث عن المشتركات وفي نفس الوقت تتعامل مع كل ما تراه من إنتهاك سابق بنصوص القوانين وروحها ، ولكن وللأسف كانت تلك القوي الصغيرة المعزولة عن التأثير الجماهيري تبحث عما يشفي غليلها وليس جراح الوطن ، فلم تعمد إلي بناء الأجهزة العدلية الواردة في وثيقتها الدستورية كمجلس القضاء العالي ومجلس النيابة ، وعملت علي تغييب المحكمة الدستورية حتي لا تراجع إجراءتها المتعسفة والمجانبة للقانون من إعتقالات عشوائية ومصادرات خارج القوانين وفصل لآلاف الموظفين من عملهم دون وجه حق ، ولم تنتبه تلك القوي إلي الإستحقاقات الكبري والتحديات العظام ، ومنها كيفية التعامل مع الحركات المسلحة التي إلتحقت بالحكومة ويفترض أنها تتحالف معها في كيان واحد ، وكان التحدي الأبرز هو إنتقال هذه الحركات بجنودها إلي العاصمة الخرطوم ، مما أدي إلي عسكرة العمل المدني السياسي ، وتعطل بسببه مشروع إدماج جنودها في القوات المسلحة ، وهو التحدي الذي سيظل يواجه السودان بعد إنتهاء هذه الحرب ، أي كيف تتحول هذه القوي العسكرية إلي قوي مدنية وأحزاب سياسية تعتمد علي الكفاح السياسي لتثبيت مكاسبها وإستحقاتها السلطوية ، يضاف إلي ذلك الخطأ الإستراتيجي بتمكين قوات الدعم السريع وتركها تتضخم تحت نظر الدولة وأجهزتها الأمنية والعسكرية ..
لقد أثبتت التجربة أن الرهان علي القوي الخارجية لن يكون مفيدا في تثبيت أي قوي في السلطة ، فقد كان تحالف الحرية والتغيير الذي لا يملك إمتدادا جماهيريا يراهن بالكامل علي الدعم الخارجي لإضعاف حلفائه وخصومه معا ، وهو الرهان الذي حمل الدكتور عبدالله حمدوك إلي إستدعاء بعثة أممية بصلاحيات واسعة تذكر بأيام الحاكم العام في السودان إبان فترة الإستعمار البريطاني ، وبدلا من المساعدة في قيام الإنتخابات والتقريب بين فرقاء الساحة السياسية ساهمت البعثة الأممية في تمكين قوي صغيرة وإستبعاد أغلبية المكونات السودانية من المشهد السياسي ، غير أن الخطوة الأخطر التي قامت بها البعثة هي زرع الشقاق بين الجيش والدعم السريع حين حملت الأخيرة بتأثير من تحالف الحرية والتغيير علي تبني وثيقة الإتفاق الإطاري التي كانت القشة التي قصمت ظهر الفترة الإنتقالية وأشعلت بسببها الحرب الحالية .
واليوم وبعد مضي أكثر من عامين من إندلاع الحرب وبينما تجاهد الحكومة السودانية لإرجاع عجلة المسار الديمقراطي إلي مسارها لا تزال تلك القوي تقوم بنفس الأدوار التي قادت إلي الحرب وتتمادي في تضخيم عقلية إقصاء الآخرين وتبني خطابات موغلة في الكراهية والإستفزاز ، والأنكي أنها لا تريد الإعتراف بكل هذه الحقائق علي الرغم من مخاطر التقسيم التي تخيم علي سماء السودان ..
اوشيك تغادر القاهرة بعد نجاح مشاركتها في ملتقى السياحة العلاجية
اختتمت الامين العام لمجلس السياحة والاستثمار والبيئة بولاية البحر الأحمر، الوزيرة د. سامية…