خواطر ابن الفضل بين “نظام التفاهة” وصمود الأخلاق في الإسلام د. محمد فضل محمد

ابتكر الفيلسوف الكندي آلان دونو في كتابه «نظام التفاهة» مفهومًا نقديًا عميقًا، شرح فيه كيف أصبحت القيم في عصرنا تُفرغ من مضمونها وتُستخدم مجرد شعارات لتجميل السلطة أو المصالح. فالمجتمع – في تحليله – يرفع لافتات براقة عن الحرية والعدالة والمسؤولية، بينما الممارسة العملية تُكرّس الرداءة، وتكافئ الامتثال للسطحيات على حساب العمق والإبداع. وقد لمس دونو هذا الانزلاق في التعليم والسياسة والإعلام، حيث تغدو الأصالة نفسها واجهة للتسويق لا جوهرًا للقيم.
غير أن بعض العلمانيين حاولوا استغلال هذه النظرية للطعن في الدين، وإسقاطها على الإسلام، ليزعموا أن ما يقع فيه بعض المسلمين من ضعف أو انحراف إنما يكشف عن عجز الدين ذاته. وكأن الإسلام – في نظرهم – منظومة شعارات جوفاء، سرعان ما تنهار عند أول اختبار. وهذا خلط وظلم، لأن الإسلام ميّز بوضوح بين المبادئ الثابتة والسلوك البشري المتغير.
والأخلاق في الإسلام ليست إطارًا شكليًا، بل هي جوهر العقيدة نفسها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق» [الموطأ، ج2، ص904]. وقال ابن القيم: «الدين كله خُلق، فمن زاد عليك في الخُلق فقد زاد عليك في الدين» [مدارج السالكين، ج2، ص294]. فالخلل ليس في المنهج، وإنما في ضعف التطبيق الإنساني. والإسلام اعترف بضعف الإنسان لكنه قدّم العلاج. قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾ [الأعراف:201]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل بني آدم خطاء، وخير الخطّائين التوابون» [الترمذي، ح2499]. وبيّن شيخ الإسلام ابن تيمية: «العبد المؤمن إذا وقع في الذنب فإنما يكون بمنزلة المريض، والمرض عارض يحتاج إلى علاج، وليس هو الأصل» [مجموع الفتاوى، ج10، ص45].
وهنا قاعدة عظيمة ذكرها السلف: لا تنظر إلى صِغَرِ المعصية، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت. فإذا استحضر المسلم أن ذنبه موجَّه إلى خالق عظيم، سرعان ما يخشع قلبه ويعود إلى رشده ويستغفر ربه. ولهذا قال ابن رجب: «المؤمن إذا أذنب فإنما يذنب وهو على خوف من الله، بخلاف المنافق الذي يذنب وهو آمن» [جامع العلوم والحكم، ص164]. فالذنب عند المؤمن تنبيه للعودة، لا بابًا للإصرار.
والتاريخ الإسلامي زاخر بأمثلة تبين هذا المعنى: ماعز والغامدية رضي الله عنهما وقعا في الزنا، لكنهما تابا توبة عظيمة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد تابا توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم» [مسلم، ح1695]. والرجل الذي كان يُؤتى به مرارًا وقد شرب الخمر، فلما لعنه بعض الصحابة قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تلعنوه، فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله» [البخاري، ح6780].
ومهما أخطأ بعض المسلمين، أيًّا كانت نسبتهم التنظيمية أو انتماءاتهم، فإن ذلك لا يُسقط على الإسلام، بل يُنسب إليهم وحدهم، ويُطالبون بالتوبة، بل ويُقدَّمون للمحاكم إذا لم يرتدعوا. ومع ذلك لا نُخرجهم من دائرة الإسلام، بل نقول إن الإسلام بريء من فعالهم.
وما وصفه دونو من «نظام التفاهة» يصلح لتحليل أنظمة تُفرغ القيم من مضامينها، أما الإسلام فقدّم منظومة متكاملة تحمي الأخلاق تربية على المراقبة الإيمانية، فتح لباب التوبة، وجعل الأخلاق أصلًا من أصول الدين. ومن الظلم أن يُستغل ضعف بعض الأفراد لتشويه الدين كله، فالأخطاء واردة بحكم طبيعة البشر، لكن العيب أن يُصرّ عليها.
فلنستحضر دائمًا عظمة من نعصي، ولنجعل من كل زلة بابًا للعودة إلى الله، لا سبيلًا للإصرار أو طريقًا للتشويه. إن الإسلام دين الحق والرحمة، ولا تهزه زلات البشر، لأنه محفوظ بحفظ الله، قائم على قيم صادقة لا تفنى ولا تتبدد.
الهندي عزالدين التحية لجيشنا العظيم ومنظومة الصناعات الدفاعية
ودّعنا فجر أمس ، من محطة السد العالي في “أسوان” الجميلة الرائعة ، ركاب القطار …