‫الرئيسية‬ مقالات ما وراء البحار بقلم: عباس حمدون كيف نخاف من الشعارات ونرحم التطبيق: قراءة في الذاكرة السودانية
مقالات - ‫‫‫‏‫أسبوعين مضت‬

ما وراء البحار بقلم: عباس حمدون كيف نخاف من الشعارات ونرحم التطبيق: قراءة في الذاكرة السودانية

ما وراء البحار بقلم: عباس حمدون  كيف نخاف من الشعارات ونرحم التطبيق: قراءة في الذاكرة السودانية

٣٠-١١-٢٠٢٥

أصبحت العقول السودانية مهيأة لتلقّي الشعارات أكثر من البرامج، وللانفعال بالكلمات قبل التأمل في الأفعال. فمتى ما حمل الشعار دلالات إيجابية قُبل بسهولة، ولكن عندما يُقارن الشعار بالتطبيق، تجد الشعار في مكان والتطبيق في مكان آخر. ورغم ذلك، يتقبل الناس هذا الوضع تدريجياً حتى ينسوا الأمر. وقد نشأ الجمهور السياسي في السودان على قاعدة مفادها أن الاختلاف في الرأي السياسي يعني بالضرورة اختلافاً اجتماعياً. ونتيجة لذلك باتت المكوّنات السياسية تعزف على أوتار العقل الاجتماعي، فتبتكر شعارات برّاقة وجذابة لا تمتّ في كثير من الأحيان بصلة للفعل التطبيقي على الأرض، لكنها تلامس المزاج العام وتشبع الحاجة النفسية للانتماء.

 

وعند النظر إلى المشهد السياسي في أوقات السلم، نجد أن الأحزاب بكل أطيافها تستثمر هذا الخلل. فالمُرشَّح إذا وجد دائرته الانتخابية عامرة بالمزارعين اختار رمزاً من محاصيلهم ليكسب تعاطفهم، أما إذا اختار رمزاً غير مألوف كالعصفور مثلاً، فقد يخسر أصواتهم في الغالب، لأنهم يرونه طائراً يلتهم محاصيلهم. وإن ترشّح وسط مجتمع متدين لجأ إلى رمز من رموز العبادة، وإلا وُصِف بأنه معادي لهم أو متطرف. وهكذا تتحول الرموز من أدوات انتخابية إلى محددات اجتماعية تصنع قبول المرشّح أو رفضه.

 

هذا النمط المتجذّر من التفكير يجعل من الشعار أداة لصناعة الأشخاص لا المؤسسات. وبينما تقوم الدول المتقدمة على نظام مؤسسي ثابت لا يتغيّر بتغير القيادات، نجد في السودان وكما في بعض دول أفريقيا، أن كل شخصية تتولى موقعاً قيادياً تأتي محمّلة بقانونه الخاص وأيديولوجيته ورؤيته الذاتية. فيتحول القائد في نظر الناس إلى بطل قومي تارة، وإلى خائن وعميل تارة أخرى، وتتحول صورته إلى شعار يحتل العقل الشعبي ويصرفه عن بناء الدولة لسنوات طويلة.

 

وفي أزمنة الحرب يزداد المشهد تعقيداً. فالمقاتلون في الميدان يرفعون شعارات الحرية وجلب الديمقراطية للشعب، بينما يناقض الواقع هذه الشعارات في كثير من الأحيان. وتظهر الخصومات بين المكوّنات الاجتماعية وحتى الدينية بأدق تفاصيلها. ففي غرب السودان مثلاً، وفي الماضي القريب وربما حتى اليوم، كانت الاختلافات بين الصوفية وأنصار السنة تتطور أحياناً إلى شغب وصدامات بسبب تفسير آية أو مسألة فقهية.

 

ولعل قصة الإمام الشافعي وتلميذه، وإن لم تُذكر بسند صحيح، إلا أنها تحمل معنى جميلاً في أدب الخلاف. إذ ذهب الإمام الشافعي إلى تلميذه يونس، بعد أن خرج غاضباً من المجلس بسبب اختلافهما في مسألة من المسائل، وقال له:
– يا يونس، تجمعنا مئات المسائل وتفرقنا مسألة!

– يا يونس، لا تحاول الانتصار في كل الاختلافات، فكسب القلوب أولى من كسب المواقف.

– يا يونس، لا تهدم الجسور التي بنيتها وعبرتها، فربما تحتاجها للعودة يوماً ما.

– اكره الخطأ ولا تكره المخطئ.

– انتقد القول واحترم القائل، فمهمتنا القضاء على المرض لا على المريض.

هذا المعنى العميق يغيب كثيراً عن وعينا الجمعي اليوم، إذ تُستنزف طاقاتنا في خلافات جانبية لا تقدّم تنمية ولا تبني دولة. وحتى إذا انتهت إلى نتائج، فغالباً لا تُترجم إلى أثر إيجابي.

إن السودان بلد زاخر بالخيرات، لا تنقصه الموارد بقدر ما تنقصه بيئة سياسية مستقرة. نحتاج فقط إلى خمس سنوات من المناخ السياسي السليم لنفتح بوابة التنمية ونصل إلى عمق المخزون الوطني. لكن منذ الاستقلال لم يُتح لنا هذا الظرف الطبيعي الذي يسمح للدولة بأن تعمل وفق شخصيتها الاعتبارية. لم يختبرنا العالم ونحن متفقون، بل اختبرنا ونحن في حالة خلاف دائم. لم نُمنح فرصة لإثبات قدراتنا العلمية إلا لدى بعض دول الخليج، ولم نُتح مساحة لمجاراة الدول في ركب التطور والتكنولوجيا. بل إن القوى الإمبريالية منحتنا مساحة للموت، فقدمنا من خلالها واحدة من أسوأ حروب التاريخ المعاصر.

‫شاهد أيضًا‬

حديث الكرامة كالوقي ..بشاعة المجازر تهز صمت المنابر الطيب قسم السيد

يبدو أن السودان قد احكم خطته لتعزيز مساره الدبلوماسي، بنهج فاعل ومؤثر،عبر المنابر الدولية …