ما وراء البحار بقلم: عباس حمدون حكاية علم.. المستطيل الثلاثي

٣-١٢-٢٠٢٥
لو مُنح الشعب السوداني آلةً لتغيير الزمن، لوضع يده على زنادها دون تردّد، رغبةً في أن يعيش الحاضر بوعي الماضي الجميل، ذلك الماضي الذي كان فيه السودان في لحظة التكوين الأولى، حين رفرفت راية المستطيل الثلاثي بألوانها الرمزية: أزرقُ الماء، وأصفرُ الشمس، وأخضرُ الخصب. كان ذلك زمن العزة والكرامة، عندما كانت الأخطاء السياسية ما تزال غضّة خضراء لم تشتد قساوتها بعد، وكانت الحياة بسيطة نقية، والوطن يتشكل على مهل لا يتشظّى، وتُصنع الأيام بخطى واثقة خالية من التنازع الحاد.
ولكن إن عدنا إلى ذلك الزمن عبر تغيير قطعة قماش فقط، فسنكون قد خُدعنا بالمظهر دون الجوهر. فاستعادة [راية البدايات] لا قيمة لها إن لم يصاحبها تعديل المنهج الذي قادنا إلى ما نحن عليه الآن. فالأمم لا تنهض بالهوية البصرية وحدها، بل باستيعاب أخطاء التاريخ وتحويلها إلى دستور دائم للعبور نحو المستقبل.
لقد أخفق الساسة الأوائل في امتحان إدارة الدولة بعد خروج السودان من ظلام الاستعمار، كانت التجربة السياسية حينها أشبه بلعبة كوتشينة انقلبت طاولتها منذ الجولة الأولى، لأن أحد اللاعبين أخفى الأوراق وغيّر قواعد اللعبة، فاختلّت النزاهة، وتاهت البلاد في صراعات لا طائل منها.
وقبل أن تنتهي صلاحية آلة الزمن، وجب على السودانيين معالجة بعض الشكليات: مسألة الهامش والمركز، وأحلام الانفصال التي تتجدّد مع كل دورة اضطراب. والحلّ يكمن في نظام الحكم الذاتي الإقليمي، حتى يصبح المركز إقليماً، والإقليم إقليماً، هذا يلغي أي مبرر لمن يريد أخذ حقوقه من المركز بالسلاح والقتال الأعمى. لأن المركز إنتقل إلى إقليمه. وعليه أن يختار بين التعايش مع مكونات الإقليم الاجتماعية والمشاركة في التنمية، أو العناد الذي قد يؤدي إلى هلاك الجميع، وتبقى الصراعات محصورة في نطاقها الجغرافي، لا تبتلع البلاد بأكملها.
إن الغالبية العظمى من السودانيين ترى أن السودان القديم، على علاته كان أرحم مما نعيشه اليوم، وربما أرحم من غدٍ مجهول إن لم نستفد من الضربات التي أنهكت البلاد وأدمت القلوب. فكل محاولة لإعادة مكانة السودان التي تركها لنا علي عبد اللطيف ورفاقه هي خطوة نحو ترميم الجسد الوطني، الذي ما زال قلبه ينبض رغم الجراح، وما زالت فيه القدرة على النهوض والركض بين أمم العالم حين تتوافر الإرادة الجامعة.
ولمَن شرّخ الوطن وشارك في تدمير بنيانه وإبادة أهله، لا تزال الفرصة قائمة للتوقف، فالتاريخ عادةً يكتب أسماء الذين امتلكوا شجاعة التراجع بقدر ما يخلّد الذين تقدموا. وإن كان الموت قدر الإنسان، فليكن مقتولاً في سبيل الوطن خيرٌ من أن يكون قاتلاً لأهله.
ولمن لجأ إلى بلاد الجوار، وشاهد كيف تُدار الدول التي استقبلته، فليحمل تلك التجارب معه يوم يعود ويصبح في موضع المسؤولية أو صناعة القرار. فالحروب تترك دروساً وعِبَراً، وشهداء الوطن عبدوا بدمائهم طرقاً غيّرت مسار التاريخ، ورسموا قواعد خالدة مفادها:
حين تجتمع إرادة أبناء الوطن وتتقدم مصلحة الدولة على مصالح الأفراد، ويخرج من بين المعارك رجلٌ يحمل روح الإنسان [نيلسون مانديلا] أو تسامُح الزعيم المهاتما [غاندي]… عندها تُسجّل أول إصابة في شباك أعداء السودان.
حديث الكرامة كالوقي ..بشاعة المجازر تهز صمت المنابر الطيب قسم السيد
يبدو أن السودان قد احكم خطته لتعزيز مساره الدبلوماسي، بنهج فاعل ومؤثر،عبر المنابر الدولية …





