الرباعية وألعاب الهيمنة: كيف يُعاد تدوير الأزمة السودانية لخدمة أجندات الرأسمالية:- بقلم قريب الله العوض

في خضم الأزمة السودانية المستعرة منذ أبريل 2023، والتي صنفتها الأمم المتحدة كأكبر كارثة إنسانية يشهدها العالم حالياً، يأتي اجتماع الرباعية (الولايات المتحدة، السعودية، الإمارات، مصر) كواحد من أحدث المحاولات الدولية للتدخل في الشأن السوداني. ولكن وراء ستار الدبلوماسية والجهود “السلامية”، تبرز أسئلة جوهرية حول ارتباط هذه المبادرة بأجندات الرأسمالية العالمية، وكيفية تحويل الأزمة الإنسانية إلى ساحة لتصفية الحسابات الجيوسياسية والاقتصادية.
أثار قرار تأجيل اجتماع الرباعية -الذي كان مقرراً في 30 يوليو 2025- موجة من التساؤلات. فمن الناحية الرسمية، أرجع مصدر دبلوماسي غربي السبب إلى “تحضيرات ضعيفة للغاية فيما يتصل بالمعالجات الموضوعة لمعالجة ملف قضية معقدة كحرب السودان”. إلا أن قراءة أعمق تكشف أن التأجيل يعكس صراعاً بين تيارين داخل الإدارة الأمريكية: فريق البيت الأبيض ممثلاً بمستشار الرئيس لشؤون الشرق الأوسط وأفريقيا مسعد بولس، وفريق وزارة الخارجية ممثلاً بنائب الوزير كريستوفر لاندو. هذا الصراع البيروقراطي ليس مجرد خلاف إداري، بل يعكس تناقضاً في الرؤى الاستراتيجية للتعامل مع السودان. فبينما يرى التيار الأول ضرورة تضييق نطاق المشاركة في الاجتماع ليكون مقصوراً على الرباعية،
يرى التيار الثاني ضرورة توسيع الدائرة لتشمل قطر والمملكة المتحدة ودولاً من الاتحاد الأوروبي والأفريقي. هذا الخلاف يكشف عن رؤيتين مختلفتين للهيمنة على الملف السوداني: واحدة إقليمية مركزة، وأخرى عالمية موسعة. عند تحليل أجندة اجتماع الرباعية المعلنة -والتي تشمل وقف إطلاق النار، وحماية المدنيين، ووصول المساعدات الإنسانية، والحفاظ على وحدة السودان- نجد أنها تتناقض مع الأجندة الحقيقية التي تكشف عنها الوقائع. فوفقاً لمصدر دبلوماسي، فإن الأجندة الأمريكية تضمنت قضايا “أمن البحر الأحمر ومكافحة الإرهاب ودور الإسلاميين في أي ترتيبات مستقبلية”. وهنا تبرز أولى مفارقات الرأسمالية: تحويل القضية الإنسانية إلى ملف أمني يستدعي التدخل. والأكثر إثارة أن السودان -الذي يمتلك ثروات طبيعية هائلة (مثل الذهب الذي تبلغ قيمته السنوية 3 مليارات دولار)- أصبح ساحة لصراع النفوذ بين القوى الرأسمالية الكبرى. فالإمارات -على سبيل المثال- تقوم بدعم قوات الدعم السريع ليس لأسباب سياسية فحسب، بل لضمان استمرار تدفق الذهب السوداني عبر قنواتها. بينما تسعى الولايات المتحدة لقطع الطريق على النفوذ الصيني والروسي المتزايد في المنطقة.
يكشف الصراع داخل الرباعية عن تحالفات معقدة تعكس مصالح رأسمالية متضاربة. فمصر -التي تتمسك بموقفها من ضرورة إشراك الجيش السوداني في أي ترتيبات مستقبلية- تتصادم مع الرؤية الإماراتية التي تريد استبعاد كل من الجيش وقوات الدعم السريع من المعادلة السياسية. هذا الخلاف ليس أيديولوجياً بقدر ما هو صراع على النفوذ في دولة تمثل بوابة أفريقيا الاقتصادية. وفي هذا السياق، يصبح تأجيل الاجتماع ليس مجرد تعثر لوجستي، بل جزءاً من عملية إعادة تحضير للسيطرة على الملف السوداني.
فكما يشير المصدر الدبلوماسي، فإن التأجيل “يتيح اكتمال الترتيبات الأمريكية بشكل أفضل، بما في ذلك توسيع دائرة التشاور مع أطراف إقليمية أخرى”. أي أن التأجيل هو في حقيقته عملية إعادة ترتيب للأوراق لضمان هيمنة أكثر فعالية. الأخطر في هذا المشهد هو تحويل السودان من دولة ذات سيادة إلى “سلعة” في سوق المصالح الدولية. فاجتماع الرباعية -الذي استبعد الأطراف السودانية الفاعلة- يشبه إلى حد كبير اجتماعات مجالس إدارة الشركات التي تتخذ قراراتها بعيداً عن الجمهور. وهذا ما يفسر الغضب السوداني العارم من هذه المبادرة، حيث وصفها حزب “التجديد الديمقراطي” بأنها “خطأ استراتيجي فادح” و”تجاوز لإرادة السودانيين”. في النهاية، يمكن قراءة تأجيل اجتماع الرباعية ليس كتراجع للجهود الدولية، بل كإعادة تحضير لمرحلة جديدة من الهيمنة الرأسمالية على السودان. فبينما يعاني السودانيون من الجوع والنزوح (12 مليون نازح داخلياً و3.8 مليون لاجئ)، تستعد القوى الكبرى لإعادة تقسيم النفوذ في بلد يمثل موقعاً استراتيجياً وثروات طبيعية هائلة. الدرس الأهم هنا هو أن الرأسمالية العالمية لا تتعامل مع الأزمات الإنسانية كقضايا إنسانية بحتة، بل كفرص لتعزيز الهيمنة. والسودان -للأسف- ليس سوى حلقة جديدة في سلسلة طويلة من الأزمات التي يتم توظيفها لخدمة مصالح القوى الكبرى. فهل يكون الوعي بهذه الحقائق أول خطوة نحو مقاومة هذا التوظيف الجائر؟
1300 سوداني على متن القطار الثامن للعودة الطوعية
غادر صباح اليوم الأربعاء من محطة رمسيس القطار رقم (1940) ضمن مبادرة العودة الطوعية المجاني…