الأمن البيئي جزء من الأمن القومي السوداني د.هشام صلاح الدين شاذلى

مقدمة
لم يعد الأمن القومي في القرن الحادي والعشرين مقتصرًا على حماية الحدود أو الردع العسكري وحدهما، بل أصبح مفهومًا مركّبًا يشمل أبعادًا سياسية واقتصادية وصحية واجتماعية وبيئية. وفي السياق السوداني، يبرز الأمن البيئي كأحد أكثر هذه الأبعاد إلحاحًا، خصوصًا في ظل الحرب المستمرة منذ أكثر من عام وما تسببت فيه من انهيار اقتصادي ونزوح واسع النطاق وتدمير للبنى التحتية.
الأمن البيئي يعني قدرة الدولة والمجتمع على حماية مواردها الطبيعية (الماء، الأرض، الغابات، الهواء) وضمان استدامة استخدامها بما يحفظ حياة المواطنين ويحول دون تحوّل البيئة نفسها إلى مصدر تهديد وجودي. في السودان، لا يمكن النظر إلى أي مسار للسلام أو إعادة الإعمار بمعزل عن هذا البعد، لأنه يمثل الركيزة التي يقوم عليها الأمن الغذائي، والاستقرار الاجتماعي، والتنمية الاقتصادية.
البيئة كأمن قومي
وفقًا لتقرير برنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP)(2022) ، فإن النزاعات المسلحة في السودان “تضاعف من معدلات تدهور الموارد الطبيعية، وتسرّع وتيرة التصحر وفقدان الغطاء النباتي”. هذه الحقيقة تجعل من البيئة جزءًا مباشرًا من معادلة الأمن القومي، لأن تدهور الموارد لا يقتصر على تهديد صحة المواطنين فحسب، بل يدفع أيضًا نحو مزيد من النزاعات حول الأرض والماء والمراعي.
إذن، فإن التعامل مع الأمن البيئي كمسألة ثانوية أو كجزء من “التنمية طويلة الأمد” خطأ إستراتيجي كبير. فالتغير المناخي والندرة المتزايدة في الموارد، مع الحرب والنزوح، تجعل البيئة اليوم جبهة من جبهات الأمن القومي السوداني.
المياه، النزوح، والضغط على الموارد
المياه: معركة صامتة
الماء هو عصب الحياة ومصدر الاستقرار، وأي تهديد له يمثل تهديدًا مباشرًا للأمن القومي. السودان من أكثر الدول تعرضًا للتقلبات المائية، فهو يعتمد بشكل أساسي على نهر النيل والأمطار الموسمية. لكن الحرب أدخلت ملف المياه في قلب الصراع: فقد تضررت محطات الضخ والتنقية، وانقطعت الإمدادات في مدن رئيسية مثل الخرطوم والخرطوم بحرى وبعض اجزاء من أم درمان .
تشير تقديرات البنك الدولي (2021) إلى أن نصيب الفرد من المياه العذبة في السودان لا يتجاوز 500 متر مكعب سنويًا، أي أقل بكثير من خط الفقر المائي العالمي البالغ 1000 متر مكعب. ومع النزوح الواسع، تراجعت هذه الحصة أكثر، لتتحول ندرة المياه إلى أزمة يومية تؤثر في ملايين المواطنين. إن السيطرة على مصادر المياه أو حرمان المجتمعات منها يمكن أن تُستغل كسلاح في الحرب، ما يجعل المياه ملفًا أمنيًا بامتياز.
النزوح والضغط على الموارد
الحرب خلّفت أكثر من 10 ملايين نازح ولاجئ، وهو رقم غير مسبوق في تاريخ السودان. هذا النزوح الضخم يضغط على المدن المضيفة وعلى الموارد الطبيعية في محيطها. ففي معسكرات النزوح تُقطع الأشجار لتوفير الوقود، وتزداد معدلات التلوث نتيجة غياب أنظمة صرف صحي متكاملة.
بحسب تقرير منظمة الأغذية والزراعة (FAO 2023) ، فإن النزوح الواسع في السودان أدى إلى “زيادة معدلات قطع الغابات في بعض المناطق بنسبة تصل إلى 40% خلال عام واحد”. النتيجة المباشرة لذلك هي تسارع التصحر وتراجع خصوبة التربة، وهو ما يهدد مستقبل الزراعة والغذاء.
هذه الحلقة المفرغة تعني أن ندرة الموارد تؤدي إلى نزاعات محلية جديدة، سواء بين المزارعين والرعاة أو بين المجتمعات النازحة والمستضيفة، وبالتالي فإن معالجة النزوح يجب أن تتضمن بعدًا بيئيًا وإلا سيبقى تهديدًا طويل الأمد للأمن القومي.
الاقتصاد الأخضر والدبلوماسية البيئية
الاقتصاد الأخضر كمدخل للأمن القومي
رغم قسوة الحرب وما خلّفته من دمار، إلا أن السودان يمتلك فرصة فريدة لإعادة بناء اقتصاده على أسس أكثر استدامة عبر تبني الاقتصاد الأخضر. ويشمل ذلك الاستثمار في الزراعة الذكية المقاومة للتغير المناخي، واستخدام الموارد الطبيعية بكفاءة، والتحول إلى مصادر الطاقة المتجددة.
تقدّر الوكالة الدولية للطاقة المتجددة (IRENA 2020)، أن السودان من أكثر الدول امتلاكًا لإمكانات الطاقة الشمسية في العالم، بمعدل إشعاع يتجاوز 2000 كيلواط/ساعة لكل متر مربع سنويًا. هذا يعني أن تبني الطاقة الشمسية يمكن أن يخفّف الاعتماد على الوقود المستورد ويقلل فاتورة الكهرباء، بل ويوفر آلاف الوظائف للشباب.
كذلك، يمكن لمشروعات الزراعة الذكية، مثل استخدام الري بالتنقيط والبذور المقاومة للجفاف، أن تعزز الأمن الغذائي وتقلل من الهجرة البيئية. وفقًا لتقديرات البنك الدولي، فإن إدخال هذه التقنيات يمكن أن يوفر ما يقارب 200 ألف وظيفة مباشرة وغير مباشرة خلال عقد واحد، ما يسهم في استقرار المجتمعات الهشة.
الأمن البيئي والدبلوماسية :
من الهامش إلى قلب السياسة الخارجية
في عالم اليوم، لم تعد الدبلوماسية مرتبطة فقط بملفات السلاح والطاقة والاقتصاد، بل أصبحت القضايا البيئية أداة تفاوضية مركزية. فالدول التي تنجح في تقديم نفسها كشركاء فاعلين في حماية المناخ أو إدارة الموارد العابرة للحدود، تحظى بوزن أكبر على الساحة الدولية، وتحصل على فرص أفضل للتمويل والدعم السياسي.
السودان كحالة خاصة
السودان يمتلك موقعًا استراتيجيًا يجعله محورًا في قضايا البيئة الإقليمية:
• هو دولة منبع ومصب في حوض النيل، ما يمنحه وزنًا تفاوضيًا في قضايا المياه.
• يمتد جغرافيًا بين الصحراء الكبرى وأفريقيا الاستوائية، ما يجعله ساحة مواجهة مباشرة مع التصحر والجفاف.
• يضم موارد طبيعية ضخمة (زراعية، غابية، معدنية) يمكن أن تكون إما عامل استقرار أو سبب صراع.
هذه الميزات تجعل من الدبلوماسية البيئية السودانية أداة ممكنة لإعادة بناء صورة السودان بعد الحرب، إذا ما تم استثمارها بذكاء.
أدوات الدبلوماسية البيئية
1. التمويل الأخضر: السودان يمكن أن يستفيد من صناديق المناخ الدولية (مثل الصندوق الأخضر للمناخ GCF ) لتمويل مشروعات الطاقة الشمسية، وإعادة التشجير، وإدارة المياه. هذه المشروعات لا تعني فقط حماية البيئة، بل أيضًا تحريك عجلة الاقتصاد وخلق وظائف.
2. التعاون الإقليمي: النزاعات على المياه بين دول حوض النيل أو مشاكل التصحر في الساحل الأفريقي ليست شؤونًا محلية فقط، بل هي قضايا عابرة للحدود. السودان يمكن أن يلعب دور الوسيط أو الشريك الفاعل في وضع حلول جماعية، ما يعزز نفوذه السياسي.
3. بناء تحالفات دولية: عبر المشاركة الفاعلة في مؤتمرات المناخ مثل قمة الأطراف COP، يمكن للسودان أن يُظهر التزامه بالاتفاقيات الدولية، ما يعزز صورته كدولة مسؤولة رغم الحرب.
دبلوماسية الفرصة
الأمن البيئي يمكن أن يتحول من “عبء” إلى “فرصة”. فإذا أعاد السودان صياغة أولوياته ليجعل البيئة أولوية في أجندته الخارجية، فسيجد نفسه أمام نافذة لإعادة الاندماج في المجتمع الدولي، وجذب استثمارات خضراء، وتخفيف عزلة ما بعد الحرب.
الصحة العامة، البعد الاجتماعي
الأمن البيئي والصحة العامة
البيئة ليست فقط مصدرًا للماء والغذاء والطاقة، بل هي أيضًا خط الدفاع الأول عن الصحة العامة. فالتلوث البيئي الناتج عن الحرب – سواء عبر النفايات الطبية غير المعالجة، أو الدخان المتصاعد من حرائق الوقود، أو تلوث المياه الجوفية بالنفايات الصلبة – أصبح مهددًا مباشرًا لحياة ملايين السودانيين.
تشير منظمة الصحة العالمية (WHO 2023) إلى أن “70% من الأمراض المنتشرة في السودان مرتبطة مباشرة بالمياه غير الآمنة وسوء الصرف الصحي”. انتشار الكوليرا وحمى الضنك والملاريا في السنوات الأخيرة يُظهر كيف أن الانهيار البيئي يقود إلى أزمات صحية حادة. أي ضعف في السيطرة على التلوث أو توفير المياه النظيفة يفتح الباب أمام أوبئة قد تكون أكثر فتكًا من النزاع المسلح نفسه.
الأمن البيئي إذن ليس ترفًا تنمويًا، بل هو جزء من منظومة الأمن الصحي. فدولة عاجزة عن حماية بيئتها ستواجه عبئًا صحيًا مضاعفًا يستنزف ميزانيتها ويقوض استقرارها الاجتماعي.
البعد الاجتماعي والثقافي
الموارد الطبيعية في السودان ليست مجرد موارد اقتصادية، بل هي جزء من الهوية والثقافة. النيل ليس مصدر ماء فقط، بل رمز للاستقرار والخصب. الغابة ليست مجرد مخزن أخشاب، بل هي سياج يحمي القرى من الرياح والتصحر. عندما تنهار هذه الموارد، فإن النسيج الاجتماعي نفسه يتعرض للتهديد.
هنا يبرز دور المجتمع المدني والشباب في حماية البيئة، سواء عبر حملات إعادة التشجير، أو مشاريع صغيرة لإعادة تدوير النفايات، أو إدخال مفاهيم الاستدامة في التعليم والجامعات. مشاركة النساء أيضًا أساسية، إذ أنهن في الريف يقمن بدور محوري في إدارة المياه والطاقة المنزلية، وبالتالي فتمكينهن يعني تقوية منظومة الأمن البيئي من الأساس.
خاتمة
إن إعادة بناء السودان لن يكتمل ما لم يُدمج الأمن البيئي في قلب السياسات الوطنية. فالتحديات التي تواجه البلاد – من ندرة المياه، والنزوح، وتدهور الأراضي، إلى الأوبئة – كلها تتقاطع عند البيئة.
إذا تم التعامل مع الأمن البيئي كقضية إستراتيجية، يمكن أن يتحول من مصدر تهديد إلى فرصة وطنية:
• فرصة لبناء اقتصاد أخضر مستدام.
• فرصة لإقامة دبلوماسية جديدة تستقطب الدعم الدولي.
• فرصة لتأسيس عقد اجتماعي جديد يقوم على العدالة في توزيع الموارد وحماية الأجيال القادمة.
الأمن القومي ليس فقط جيوشًا وحدودًا، بل أيضًا ماء نظيف، وهواء نقي، وتربة خصبة، وغابة تحمي القرى. بدون هذه الركائز، ستظل محاولات السلام ناقصة وهشة. وبها فقط يمكن أن يتحقق سلام حقيقي ومستدام.
التحديات البيئية الرئيسية وتأثيرها على الأمن القومي في السودان

حديث الكرامة كالوقي ..بشاعة المجازر تهز صمت المنابر الطيب قسم السيد
يبدو أن السودان قد احكم خطته لتعزيز مساره الدبلوماسي، بنهج فاعل ومؤثر،عبر المنابر الدولية …





