أصل_القضية تشاد تتراجع عن الظل: السودان يكتب الجغرافيا من جديد محمد أحمد أبوبكر باحث بمركز الخبراء العرب
في الليلة الظلماء، قد تُضيء شمعةٌ صغيرة طريقًا لأمة بأكملها…
وفي الزحام الجيوسياسي الذي تضج به أفريقيا الآن، لم يكن التصريح العابر بأن تشاد أوقفت دعمها للدعم السريع مجرد خبر عاجل، بل كان كأنّ الجغرافيا تنطق، والتاريخ يصحّح نفسه.
ذاك التصريح هو أشبه بصوت العاقلين وقد علا وسط ضجيج المغامرين. هو إعلان غير معلن أن السودان، رغم النزيف، ما يزال رقمًا صعبًا، بل رقما حاسما.
🌍 عندما تتكلم الأرض: ما وراء التراجع التشادي
تشاد لم تستيقظ فجأة على “خطر الدعم السريع”. كانت تعلم، منذ اللحظة الأولى، أن النار المشتعلة في دارفور قد تمتد إلى بيوت الطين في أبشيه وساحات نجامينا. لكنها سايرت اللعبة الإقليمية، وغضّت الطرف عن الطيران الإماراتي، وتغافلت عن الذخائر التي تُنقل ليلًا، وعن الذهب الذي يعبر الحدود بلا إذن، ولا علم، ولا حساب.
لكن حين بدأ الحريق يقترب من خاصرتها، حين صار اللاجئون يُشكّلون ضغطًا سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، حين تسرّبت أخبار تذمُّر داخل الجيش التشادي نفسه، حين صار الدعم السريع يتمدد بلا سقف… قررت أن الوقت قد حان لتغير موقعها على رقعة الشطرنج.
ليس حبًا في السودان. بل حفاظًا على الذات.
🧭 دبلوماسية الظل تنهار… والصوت يعود من الخرطوم
منذ اندلاع الحرب، انتهجت بعض العواصم الأفريقية “دبلوماسية الظل” تجاه السودان: الحياد المضلِّل، أو المواقف الرمادية التي تسمح باللعب على الحبال. لكن التحولات الأخيرة تشير إلى أن هذه المرحلة انتهت. السودان يفرض نفسه من جديد، لا كلاعب محلي، بل كمُعادِل جيواستراتيجي لا يمكن تجاوزه.
الصوت الذي يصدر الآن من تشاد لا يُخاطب الخرطوم فحسب، بل يُرسل إشارة صامتة إلى كل من أديس أبابا، واسمرا، وبنغازي، وأبوظبي:
> “الخرطوم لم تسقط. بل تنهض على نحو مختلف. من بين الركام، يخرج جيش. من بين الرماد، تصعد دولة.”
🛠️ كيف نقرأ هذا الحدث وفق استراتيجية “الجسر والمورد”؟
استراتيجية الجسر والمورد ليست مجرد تصور أكاديمي، بل هي إطار عملي لإعادة تعريف دور السودان كحلقة وصل بين شمال أفريقيا الاستراتيجي وعمقها الحيوي في وسط وشرق القارة.
انقلاب تشاد على الدعم السريع يحمل الدلالات التالية:
انهيار شبكة التهريب العابرة للحدود التي اعتمدت على السيولة الأمنية والفوضى الجيوسياسية.
فشل الرهان على تفكك السودان، وبدء الاعتراف الإقليمي بأن الجيش السوداني يُعيد تثبيت نفسه كقوة دولة لا ميليشيا.
عودة فكرة “الحدود الآمنة” كشرط أساسي للاستقرار في تشاد، وهو ما لا يمكن تحقيقه دون تفاهم مباشر مع الخرطوم.
إعادة هيكلة العلاقات الثنائية على قاعدة المصلحة المشتركة، وليس على لعبة المحاور والمصالح العابرة.
الخرطوم تتحول من متلقٍّ للأحداث إلى صانع لها. هي الآن مركز جذب، لا مجرد متفرج.
🔮 سيناريوهات مستقبل العلاقات السودانية التشادية
✅ أولًا: سيناريو الشراكة الواعية — حين تنتصر الجغرافيا للعقل
في هذا السيناريو، تدرك تشاد أن استقرار السودان هو امتداد لأمنها القومي، وتبدأ بخطوات عملية لبناء تحالف حدودي يشمل:
اتفاقيات أمنية مشتركة.
إنشاء قوة حدودية سودانية-تشادية بغطاء أفريقي.
تنظيم تدفقات اللاجئين بمعايير إنسانية مشتركة.
تحويل دارفور إلى منطقة تكامل لا صراع، عبر مشاريع اقتصادية وشبكات نقل بري تربط نجامينا ببورتسودان.
> هذا السيناريو يُمثّل الجوهر العملي لاستراتيجية “الجسر والمورد”: استثمار في الاستقرار لا استنزاف في الفوضى.
⚖️ ثانيًا: سيناريو البرود المدروس — التوجس المتبادل
هنا تتراجع تشاد عن دعمها العسكري، لكن تبقي على مسافة محسوبة من السودان. لا حرب، لا تحالف. مجرد هدنة سياسية غير مكتوبة.
التوتر يبقى حاضرًا، لكن دون انفجار.
الحدود تُدار لا تُغلق.
التشكيك في النوايا يظل عاملًا معوقًا لأي تكامل.
القوى الدولية تستثمر في هذه الفجوة لتوسيع نفوذها، ما بين فرنسا وأمريكا وروسيا.
> سيناريو واقعي لكنه يضيّع فرصًا نادرة للتحول الهيكلي في العلاقة بين البلدين.
❌ ثالثًا: سيناريو الارتداد — حين ينتصر الخوف على الحكمة
إذا عادت تشاد للدعم الخفي أو الصمت المتواطئ، فإن هذا يفتح الباب أمام:
تفاقم العمليات المليشياوية عبر الحدود.
ردود انتقامية من الدولة السودانية.
انهيار الثقة، وتصاعد خطاب الكراهية.
ظهور وكلاء جدد يملأون الفراغ (مرتزقة – فاغنر – جماعات متطرفة).
> هنا تتحول الجغرافيا إلى لعنة بدل أن تكون نعمة، وتُعاد كتابة الجغرافيا بالدم لا بالحكمة.
✊ السودان… حين يُملي شروطه من وسط الحرب
الدرس الأكبر من هذا التحول ليس ما فعلته تشاد، بل ما أجبرها السودان على فعله.
بلد تحت النار، محاصر، تنهشه المليشيات، وتنهمر عليه الدعاية…
لكنه يصمد. ويتكلم. ويفرض مواقفه.
> في السياسة كما في الجغرافيا: لا يُمكن تجاوز السودان.
فإما أن تكون على جسر مصالحه، أو في هوّة عزلته.
🌟 كلمة الختام: السودان يعود… لا ليستعطف، بل ليقود
إذا أُحسِن استثمار هذا التحول التشادي، وإذا أُدير الخطاب السوداني بذكاء استراتيجي، فإننا على أعتاب مرحلة جديدة من الدور السوداني الإقليمي:
دورٌ لا يُمارس عبر الحملات الإعلامية، بل عبر هندسة الواقع.
دورٌ لا يبنى على الدعم الخارجي، بل على ما يُنجز في الداخل.
دورٌ لا يكتفي برد الفعل، بل يُبادر بالفعل.
إنها لحظة نادرة… إما أن نُمسك بها فنصنع الفجر، أو نضيعها فنعود إلى ليل طويل.
> “يا وطن… الجغرافيا تفتح لك بابها من جديد. فهل تكتبها بقلمك هذه المرة؟”
معز أبو الزين _ يكتب (الطابور الخامس ) _ السودان بين منعطفات الخارج الطامع وتعرجات الداخل المهتز
لعل ثغرات الداخل المتفكك أكثر خطورة على السودان من الخارج المتماسك ضده فالهزيمة والإنهيار …