وجه الحقيقة |إبراهيم شقلاوي الخرطوم وواشنطن: دبلوماسية الاحتمالات..!

تمضي واشنطن في هذه المرحلة بخطوات تهدف إلى إعادة صياغة التوازنات الإقليمية ورسم خرائط النفوذ في المنطقة، ويقف السودان في قلب هذه المعادلة، عاريًا رغم ما يملكه من فرص ليكون لاعبًا أساسيًا. تأتي زيارة وزير الخارجية محيي الدين سالم والوفد المرافق له إلى واشنطن متجاوزة البيانات الرسمية، إلى التسريبات المخدومة بعناية .
لاعتبارات كثيرة نحاول قرأت هذه الزيارة بصورة تقارب بين ما هو معلن وما هو أخفى بالنظر لواقع الأحداث المتلاحقة.
تدخل الخرطوم هذه المحطة وهي تحاول تثبيت حضورها كدولة قائمة وفاعلة، في ظل حرب أعادت طرح العديد من الأسئلة. فالمعركة في الميدان ليست معزولة عن معركة الدبلوماسية، والقدرة على الوصول إلى واشنطن بهذا التوقيت تحمل إشارة إلى أن الخرطوم تسعى لنقل الصراع من منطق القوة العسكرية إلى منطق السياسة والمقاربات الممكنة.
بهذا المعنى تبدو الزيارة محاولة لتأكيد أن الدولة ما زالت قادرة على مخاطبة العالم بوصفها صاحبة القرار، لا بوصفها طرفاً مفعولاً به في سياق أزمة.
أما واشنطن، فتنظر إلى السودان باعتباره ساحةً تتقاطع فيها مصالح إقليمية ودولية دقيقة. فاستمرار الحرب بلا أفق سيحوّل البحر الأحمر والقرن الأفريقي إلى فضاء مفتوح لتغلغل قوى منافسة، ويهدد بخلق فراغ استراتيجي يصعب احتواؤه. من هنا تتحرك الإدارة الأمريكية بدوافع عملية أكثر منها أخلاقية، فالمسألة ليست “نصائح من أجل السلام”، بل ترتيبات لضبط توازن النفوذ ومنع الانهيار في منطقة ذات أهمية جيوسياسية بالغة.
في هذا الإطار، يجب أن يكون السؤال حول ما ستطلبه واشنطن من الخرطوم و ما يمكن أن تقدمه الخرطوم من رؤية شاملة لمستقبل الدولة وموازين القوة داخلها. فالتفاوض في مثل هذا السياق لا يبنى على الخطابات، بل على الوقائع المتشكلة في خطوط القتال والتحالفات ودوائر النفوذ. وما يتبلور على الأرض سيكون السقف الواقعي لأي تسوية قادمة، سواء كانت وشيكة أو مؤجلة.
نجاح الزيارة، إذن، لا يُقاس بالتصريحات ، بل بمدى قدرة الخرطوم على إدارة معادلتين متوازيتين: ترسيخ ميزان القوة على الأرض، وتثبيته في خطاب سياسي قادر على تحويل المكاسب العسكرية إلى فاعلية دبلوماسية.
من هنا يبرز مفهوم “دبلوماسية الاحتمالات” كمدخل لفهم التحرك السوداني الراهن ، مسار لا يَعِدُ بحل فوري، لكنه يفتح نافذة سياسية في جدار الحرب، ويمنح الخرطوم فرصة لإعادة تعريف ذاتها كفاعل إقليمي، لا مجرد ساحة صراع بالوكالة. نجاح ذلك يرسم مستقبل السودان بل ربما يرسم مستقبل المنطقة بإكمالها بالنظر إلى الخطة الأمريكية التي تعمل علي هندسة الشرق الأوسط والقرن الإفريقي.
إلا أن ما يجري في واشنطن، بحسب تسريبات عدة، لا يبدو حواراً ثنائياً مباشراً مع الولايات المتحدة بقدر ما هو تفاعل مع الإمارات بوساطة أمريكية. كذلك هو حوار مع الرباعية. فواشنطن تسعى إلى تحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية، مع إبقاء الملف السوداني ضمن أولوياتها، خصوصاً في ظل تداخل قضايا الأمن الإقليمي والطاقة والممرات البحرية.
ويعزز هذا الطرح تكوين الوفد السوداني الذي ضم وزير الخارجية محي الدين سالم، ورئيس هيئة الاستخبارات الفريق محمد علي صبير، والعقيد عمرو أبوعبيدة ، ونائب مدير المخابرات، وسفير السودان في واشنطن وهو ما يشير إلى أن الملفات المطروحة تتجاوز الشأن الاقتصادي إلى القضايا الأمنية والسياسية ذات الطابع الاستراتيجي.
إن غياب رؤية واضحة لدى الوفد قد يجعل الحوار عرضة للتحول إلى تفاهمات غير متوازنة، ما يفرض ضرورة بلورة موقف وطني موحد يضمن تحويل هذا المسار إلى صفقة سياسية متكافئة تشمل رفع العقوبات، وتصنيف مليشيا الدعم السريع كمنظمة إرهابية، وجذب استثمارات خليجية لإعادة الإعمار، بما يحافظ على مصالح السودان في ظل الحرب الراهنة.
وعلى ما يبدو، فإن ما يجري في واشنطن لا يهدف إلى صناعة سلام مباشر بقدر ما يسعى إلى إعادة ترتيب النفوذ والمصالح الأمريكية في السودان، في لحظة تتراجع فيها جدوى الدعم السريع بعد الانتهاكات وتآكل حاضنته الاجتماعية.
وبالتوازي، تميل واشنطن إلى إعادة تموضعها عبر دعم ترتيبات سياسية أكثر استقراراً، قد تتجسد في حكومة جديدة مدعومة بمرجعية عسكرية يقودها الفريق عبد الفتاح البرهان أو ربما تعيد النظر في البرهان نفسه اذا رأت ضعفا في الجبهة الداخلية ، مع تقليص أدوار بعض الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا، وترك تحالفات “صمود” و“تأسيس” خارج معادلة السلطة ، ما يدفع بعض القوى السياسية إلى مراجعة مواقعها وخياراتها.
وهنا تظل ورقة الشارع السوداني مهمة في غياب المؤسسة التشريعية التي كانت بالإمكان أن تمثل خط دفاع معتبر لولا قصر النظر والابطاء في استكمال هياكل السلطة وفق الوثيقة الدستورية المعدلة للعام 2025
وفي هذا السياق، تبرز إمكانية عودة الإسلاميين كأحد المكونات المؤثرة في معادلة السلطة القادمة. فبرغم الجدل حول دورهم في الماضي، لا يمكن إنكار أنهم شكّلوا أحد الأعمدة التنظيمية والاجتماعية الداعمة للجيش خلال الحرب، وأسهموا في تثبيت خطوط الدفاع عن الدولة في مواجهة مليشيا الدعم السريع. هذا الواقع يجعل حضورهم جزءاً من موازين القوة الداخلية التي لا يمكن تجاوزها في أي تسوية مستقبلية.
لكن عودتهم لن تكون بصورتها الأيديولوجية السابقة بحسب تسريبات، فواشنطن، رغم إدراكها لثقلهم الواقعي، لن تقبل بإعادة إنتاج النظام القديم. لذلك، يُرجح أن يأتي حضور الإسلاميين في المواصلة في الدعم المعلن للمؤسسة العسكرية، كذلك من خلال واجهات مدنية تحمل طابعاً وطنياً لا حزبياً.
وبهذا المعنى، قد يعيد الواقع إنتاج الإسلاميين كقوة نفوذ داخل الدولة، لا كقوة حكم مباشر بالنظر الي موقفهم الصريح” لا عودة الا عبر الانتخابات” ، بالمقابل سيظلوا ممسكين برسن التوازن بين متطلبات اسناد الميدان والمحافظة علي السيادة الوطنية مع تجاوز الضغوط الدولية.
هذا التحول يعكس أيضاً براغماتية أمريكية، إذ لم تعد واشنطن تتعامل بمنطق الإقصاء المطلق، بل بمنطق “الاحتواء السياسي”، باعتبار أن إبعاد الإسلاميين كلياً يعني خسارة كتلة اجتماعية مؤثرة ودفعها نحو معارضة غير محسوبة.
أما على المستوى الإقليمي، فالتباين بين مواقف القاهرة وأبوظبي من جهة، والدوحة وأنقرة من جهة أخرى، سيحدد المساحة التي يمكن أن يتحرك فيها الإسلاميون ضمن التسوية القادمة، سواء كداعمين للجيش أو كشركاء في السلطة عبر صيغ انتقالية مرنة .
يتقاطع هذا المشهد مع حراك داخلي متصاعد في بورتسودان لإعادة هندسة العلاقة بين السلطة وحلفائها، في ما يبدو تمهيداً لمرحلة جديدة لإسناد التفاوض الإقليمي والدولي الذي بات يشكل ضغط علي الدولة السودانية.
في المحصّلة، تبدو بلادنا اليوم أمام استحقاق إعادة تعريف الدولة نفسها، في ظل لحظة إقليمية مضطربة تعيد تشكيل موازين النفوذ. ما لم يتبلور مشروع وطني واضح، سيظل المشهد مفتوحًا على جميع الاحتمالات.
وفي جميع الأحوال ، بحسب #وجه_الحقيقة تظل السياسة هي فن إدارة الممكن لا اجترار الأمنيات والعواطف ويبقى السؤال المفتوح : هل تكون زيارة واشنطن بداية مسار لإعادة إنتاج الدولة وفق مشروع وطني وتوازن قواها الداخلية، أم مجرد مناورة مؤقتة في مأزق يتعمّق وربما يعصف بوحدة الجبهة الداخلية ويعصف بالبلاد ؟
دمتم بخير وعافية.
الأحد 26 أكتوبر 2025م Shglawi55@gmail.com
قبل المغيب عبدالملك النعيم احمد المجلس التنسيقي للصحفيين
26 أكتوبر 2025م في الأخبار أن مجموعة من الزملاء الصحفيين قد تنادوا بعضهم البعض في مدينة بو…





