تأملات في حوار (المشيئة) بين زكريا ومريم عليهما السلام عادل عسوم

وقفت كثيرا بين يدي هذه الآية العظيمة من سورة آل عمران:
{كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.
زكريا عليه السلام هو زوج أخت مريم عليهما السلام، إذ ان زوجه اشياع بنت عمران هي أخت مريم بنت عمران. وقيل بل أشياع أخت حنة امرأة عمران أم مريم.
قال ابن عاشور: (ولما ولدت مريم كان أبوها قد مات، فتنازع كفالتها جماعة من أحبار بني إسرائيل حرصا على كفالة بنت حبرهم الكبير، واقترعوا على ذلك، فطارت القرعة لزكريا، والظاهر أنَّ جعل كفالتها للأحبار كونها محررة لخدمة المسجد، فيلزم أن تربى تربية صالحة لذلك.
تجمع التفاسير بأن المشيئة (يرزق من يشاء) في الآية الكريمة -مثار حديثنا- هي مشيئة الله جل في علاه، ومعلوم يقينا أن لامشيئة فوق مشيئة الله تعالى، فهو تعالى الذي يعلم الغيب وحده، وهو الرزاق ذو القوة المتين…
أما (بغير حساب) فإنها مرهونة بكثرة الرزق وتنوعه ودوامه، أي أن الله يرزق -من يختاره- من الرزق ما لا يحده حساب من حيث الكثرة وعدم الانقطاع…
هذا اجمال ما جاء في التفاسير عن اللفظتين والسياقين.
كلما دخل عليها زكريا -وهو النبي- إلى المحراب وجد بين يديها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف، ومن أطايب الطعام والشراب مالا يعهد ولايعقل تيسره لها، فسألها والدهشة تنتابه:
كيف؟، ومن أين هذا كله؟
فإذا بمريم لا تزيد وهي خاشعة مفوضة الأمر كله لله: {…إن الله يرزق من يشاء بغير حساب}!!!
مريم هذه يا أحباب مرت من قبل بتجربة عجيبة ومذهلة، تجربة يصعب جدا على فتاة احتمالها، ومريم هي الفتاة التي أتت بعد نذر نذرته امها الصديقة ابنة عمران حين قالت: {…رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا…}.
انها فتاة (معاذة من الشيطان)، وبعد ان كبرت حدث لها ما تحكيه الآيات الكريمات:
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً {16} فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً {17} قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً {18} قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً {19} قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً {20} قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً {21} فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً {22} فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً {23} فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً {24} وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً {25} فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً {26}}
بالله عليكم، كيف يكون إيمان ويقين فتاة مثلها ويحدث لها كل ذلك؟!
هنا، ادعوكم للعودة لنقف معا بين يدي لفظة (بغير حساب) في قولها (ان الله يرزق من يشاء بغير حساب).
السؤال:
ياترى هل لفظة (بغير حساب) هذه قاصرة على كمية الرزق او تنوعه او دوامه فقط؟!
ألا يعلم زكريا عليه السلام من قبل قول مريم -وهو النبي- أن الله يرزق من يشاء بغير حساب؟!
كل المؤمنين يعلمون يقينا أن الله يرزق من يشاء وبغير حساب، وذلك مذكور في كل الكتب السماوية من لدن آدم عليه السلام،
إذن ما المقصود الحقيقي من قول مريم عليها السلام (أن الله يرزق من يشاء بغير حساب)؟!
مريم عليها السلام تعني يقولها هذا أمرا أكبر واعمق من مجرد الرزق وتنوعه واستدامته بكثير، وهي الفتاة المعاذة من الشيطان منذ أن كانت في بطن أمها وجين ولدتها، وهي القانتة العابدة والخادمة للمسجد، وهي الفتاة التي مرت بتجربة عجيبة ورهيبة نتج عنها ولادتها لنبي رسول، ولد من غير الاسباب البشرية المعلومة بوجود أب، ثم كلمها وهو في المهد مواسيا وكلم الناس واخبرهم بأنه عبدالله ورسوله!
لقد جعلها كل ذلك توقن يقينا راسخا بأن الله يرزق من يشاء بغير حساب.
(هنالك) فهم زكريا المرد والتقط الإشارة…
(هنالك) تبين زكريا عليه السلام بأن الله يرزق ويهب دون ان يكون عطاءه محتاجا لأسباب…
{هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ ۖ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ۖ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} آل عمران 38
لقد كان زكريا عليه السلام مهموما بأمر (الخلفة) وقد كبر، وكانت زوجه عاقر، فإذا به يسمع من مريم -التي يوقن بطهرها وصدقها وورعها- قولا نبهه إلى أمر كان خافيا عليه من قبل، واقول كان خافيا عليه بشاهد ابتدار الآية حيث قال الله تعالى: (هنالك)!
وبعض التفاسير تقول بأن (هنالك) قد تعني المحراب، اي انه ذهب إلى المحراب حيث كانت مريم، ليدعو الله بأن يهبه غلاما، وتقول بعض التفاسير بأن زكريا عليه السلام عندما أراد أن يدعو الله كي يهبه ابناً؛ فانه اختبأ عن الناس حتى لا يوصف بالرعونة وهو في هذا العمر يدعو أن يكون له ابن، قال قتادة رضي الله عنه في تفسير ذلك:
(مافعل زكريا عليه السلام ذلك الاّ لأنه يعلم يقينا أن الله يحب أن يدعوه عبده خاليا وسراً دونما جهر ثم قال: إِنَّ اللَّه يَعْلَم الْقَلْب التَّقِيّ وَيَسْمَع الصَّوْت الْخَفِيّ).
و(هنالك) في هذه الآية لها وصل بماسبق من رد مريم عليها السلام في الآية التي سبقتها، وهو: (ان الله يرزق من يشاء بغير حساب)!
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (رُبَّ أَشْعَثَ مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ).
والمعنى أنه لو حلف هذا الاشعث على شيء بأن يقع -ثقة بالله وحسن ظن به- لأبره الله، وقيل معنى القسم في الحديث الدعاء.
والمراد من كل ذلك الثقة بالله وقوة الإيمان، ومريم عليها السلام يتببن المتدبر في ثنايا ردها على زكريا تمام ثقتها بالله وقوةِ إيمانها به وكمال توكلها عليه جل في علاه، وذلك كان حال الأشعث المدفوع على الابواب أيضا، وكل قلب ووجدان عامر بهذه السمات؛ إذا (شاء) صاحبه ورغب في شئ ودعى الله لأجله بإخلاص وإلحاح يكون اقرب الى إستجابة الله تعالى وتحقيق مراده ان شاء الله، وقد وهب الله مشيئة للبشر دون بقية خلقه، اذ جعل للبشر مشيئة واختيار، ووهبهم إرادة:
{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} التكوير 29
وهذه المشيئة لا تقع إلا بعد مشيئة الله، فهو جل وعلا المتصرف في عباده، والمدبر لشؤونهم؛ فلا يستطيع البشر أن يشاؤوا شيئًا أو يريدوا شيئًا إلا بعد مشيئة الله له،
{… يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ}!.
وكما ذكرنا من قبل فإن زكريا عليه السلام (وهو النبي) لا يفوت عليه ان يعلم من قبل بأن الله يرزق (بمشيئته) من يختاره، وبالتالي فلاجدال بانه عليه السلام كان يدعو الله بما يرغب ويريد -من قبل حواره مع مريم- لكنه ما كان يؤسس دعاءه على نية وفهم بغير الذي تبين له من ثنايا رد مريم بأن الله يرزق من يشاء بغير حساب، واتضح له بأن الامر فيه (مشيئة) اخرى هي أدنى رتبة من مشيئة الله، هذه المشيئة ينبغي له ان يؤسس عليها دعاءه، وشاهدي في ذلك ابتدار الآية ب(هنالك)!
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ)
الحديث حسنه الألباني في صحيح الترمذي.
ومريم عليها السلام كانت تشتهي وترغب ما تشاء من طعام وشراب وفاكهة، فتدعو الله بالذي (تشاءه) وهي موقنة يقينا لايداخله شك بأن الله سيحقق لها طلبها ويهبها (ماتشاء)…
قد يقول قائل بان الله الذي يعلم كل شئ يرزق مريم بما يشاءه هو تعالى لتمام علمه بما يجيش في هو خاطرها وما تريده، لكن يبقى الامر رهين بما تشاءه وترغب فيه هي حيث تدعو الله وهي موقنة بالاجابة فيستجيب لها جل جلاله، فإن ذلك ادعى لان يتسق مع السياق اللغوي والايماني الذي يريده الله من عباده وهو ينزل لنا قرآنا نقرأه ونتدبره ونعمل به…
(هنالك) أدرك زكريا مالم ينتبه إليه من قبل، فعمد إلى تأسيس دعاءه -من جديد- على (مشيئة له) يجعلها زلفى بين يدي مشيئة الله الغالبة، ودون ان ينسى الإشارة إلى دعاءه (فيما مضى) قبل ان ينتبه إلى ماتعلمه الآن من مريم عليها السلام حيث قال: {…وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا…}.
أي لم أعهد منك إلا الإجابة في كل دعاء دعوتك لأجله فلم تردني قط فيما سألتك إلا أمر الخلفة هذه، وظل يدعو ويلح في الدعاء جاعلا من أمر الخلفة والانجاب كل همه ومراده، فكأنه جعله بمثابة مشيئة له يبذلها ويرجو تحققها بمشيپة الله.
والامر ليس بقاصر على نبي، انما للناس جميعا، ولنقرأ معا هذه الآية الكريمة:
{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ۙ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}
يونس 22
الشاهد في هذه الآية هو (دعو الله مخلصين له الدين).
فالإخلاص في الدعاء زالإكثار منه يجعل منه مشيئة للعبد يبذلها لله صاحب المشيئة الأعلى والأأكد، والإكثار مطلوب حتى في التسبيح والتهليل وكل الأذكار، اذ في ذلك مدعاة للإخلاص لله، وقد وردت آيات وأحاديث كثيرة في ذلك.
الخلاصة:
عندما ترغب في شئ توجه بكل مافيك الى الله اخلاصا لله ويقينا فيه جل في علاه، واكثر من الدعاء وكن ملحاحا، فإنك بذلك تجعل من دعائك (مشيئة) لك وكن واثقا من مشيئة الله بعد أن تطب مطعمك ومشربك وملبسك.
والله أعلم
اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء همومنا، وذهاب أحزاننا، وأرزقنا تلاوته بالوجه الذي يرضيك عنا، واجعله نورًا لنا في قبورنا، ومؤنسًا في وحدتنا ونورًا لنا على الصراط وشفيعًا لنا يوم القيامة، انك ياربنا ولي ذلك والقادر عليه.
آمنت بالله
adilassoom@gmail.com
شئ للوطن م.صلاح غريبة – مصر السودان.. بوابة العبور إلى الاقتصاد الرقمي
Ghariba2013@gmail.com تخطو الحكومة السودانية خطوات استراتيجية ومفصلية نحو دم…





